السبت، 16 أكتوبر 2010

مواقف نقدية من التراث الإسلامي

لقد تعرض التاريخ الإسلامي إلى الكثير من التزييف المعلوم وغير المعلوم، وبناء على المعلوم منه وغير المعلوم تختلف اتجاهات وأغراض المؤرخين الإسلاميين. ولقد تناولت كتب التاريخ الإسلامي بشكل عام وكتب السيرة بشكل خاص العديد من الموضوعات التي تكاد تكون في حبكتها الدرامية، أشبه بالأساطير التي تروى في أدب الأطفال لما فيها من خيال يفتقر إلى أبسط مقومات العملية التأريخانية العلمية. وينزع غالبية هؤلاء المؤرخين إلى محاولات إضفاء طابع القداسة والنورانية الخالصة على تلك العهود لاسيما فترة البعثة المحمدية، متجاهلين أبسط القواعد المتعبة في التأريخ سواء بالتتبع التاريخي والزمني للأحداث، أو من حيث الدقة في الإحصاء. فمثلاً: نجد أنّ المؤرخين لم يكونوا دقيقين في مسألة إحصاء عدد المتآخين من الأنصار والمهاجرين، فذكر بعضهم أنهم تسع وتسعون في حين ذكر آخرون أنهم مائة رجل، وبعضهم زاد على ذلك، ومنهم من قال أنه لم يظل مهاجر إلا وتمت مؤاخاة مع أنصاري بالمقابل. وإذا عرفنا أنّ عملية المؤاخاة هذه كانت من أهم الأحداث التي تمت بعد هجرة محمد وأصحابه إلى يثرب، نجد أنه ليس من المنطق أن يجهل المؤخرون عدد المتآخين من حيث أنّ هذا الحدث يُعدّ من أهم الأحداث التاريخية في تلك الفترة. قد يكون لتأخر عملية التدوين دور كبير في ذلك، ولكن سوء النيّة وارد بالنسبة إليهم، لاسيما عندما نعلم أنّ المؤرخين يؤكدون على مؤاخاة من لا يمكن مؤاخاتهم من المهاجرين والأنصار.

فمثلاً: نجد أنهم يقولون بأن جعفر بن أبي طالب قد تمت مؤاخاته مع معاذ بن جبل رغم أن جعفر بن أبي طالب كان في الحبشة تلك الفترة! وتذكر بعض كتب التاريخ الإسلامي والسيرة ومنها "سيرة بن هشام" والبلاذري والطبري أن أبا ذر الغفاري قد تمت مؤاخاته مع (...) بن عمرو الساعدي، والصحيح أن أبا ذر لم يأت إلى المدينة إلا بعد فكّ المؤاخاة. وهكذا نرى أن عملية التدوين للسيرة لم يكن تدقيقاً إن لم نقل أنه كان ارتجالياً في كثير من الأحيان.

لقد ساعد ذلك كله في بذر الشك في النفوس تجاه ما حدث بالفعل سواء على مستوى السيرة النبوية بشكل خاص أو في حياة الصحابة وطبيعة العلاقات التي كانت تربطهم. بل إنّ كثيراً من المؤرخين في عمليات ارتجالهم غير المسئولة تلك يتجاهلون في كثير من الأحيان النصوص القرآنية الواضحة. ففي حين يفرّق النص القرآني بين المسلمين أنفسهم ويصنفهم إلى: مهاجرين وأنصار ويفرّق بين المهاجرين السابقين والمتأخرين أو المتلكئين كما يتم التصنيف في نصوص أخرى على أساس من ناصر الإسلام بالمال عمن لم يدافع بماله إلا في فترات متأخرة لم تكن فيه الحوجة للمال ماسة كما في بدايات الدعوة.

في هذا المبحث سوف أحاول تسليط الضوء على ما ذكرته كتب السيرة والتاريخ الإسلامي من بعض المواقف التي لا تتفق مع النسق العقلاني أبداً ، ونفندها نقداً وتمحيصاً، لنسأل السؤال الأكبر بعد ذلك: لماذا نزع المؤرخون المسلمين إلى تزييف الحقائق في التاريخ الإسلامي؟ ما هو غرضهم من ذلك؟


غياب الوحي أم غياب المصدر؟
روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى اللهم عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه قال: "أخبرني به جبريل آنفا قال ابن سلام ذاك عدو اليهود من الملائكة قال أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي فجاءت اليهود فقال النبي صلى اللهم عليه وسلم أي رجل عبد الله بن سلام فيكم قالوا خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا فقال النبي صلى اللهم عليه وسلم أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام قالوا أعاذه الله من ذلك فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قالوا شرنا وابن شرنا وتنقصوه قال هذا كنت أخاف يا رسول الله"

وردت هذه الرواية أيضاً في مشكاة المصابيح وفي مسند الإمام أحمد وفي صحيح الجامع الصغير. وهنالك رواية أخرى مشابهة لهذه الرواية عن لجوء مشركي قريش إلى أحد الرهبان اليهود، وطلب العون منه في كشف حقيقة محمد، فقال لهم (لأسألنّه عن ثلاثٍ لا يعرفها إلا نبي) فكان أن سأله عن: الروح، وأصحاب الكهف، وعن أمرٍ ثالث، فما كان من محمد إلا أن طلب من الكاهن إمهاله بضعة أيام انتظاراً للوحي، ويقال أنّ الوحي قد تأخر حتى بدأ القوم يتشككون في مصداقيته، حتى نزلت سورة "الكهف" وأخرجته من هذا المأزق. ومن مفارقات هذه الرواية الغريبة وغيرها من الروايات الأخرى المشابهة، هو معرفة السائل بالمسئول عنه رغم ارتباط هذه المعرفة بالأنبياء فقط. فإن كانت هذه الأمور -في تلك الحقبة المتدنية من العلوم- معروفة لراهب أو كاهن يهودي فأين وجه الإعجاز في الإجابة عليها؟ وإذا كانت هذه الأمور لا يعرفها إلا نبي فكيف للراهب أن يعرفها ليعود فيصدّق زعم محمد بمعرفتها بعد ذلك؟ وهل كانت قريش أصلاً تبحث عن صدق أو كذب محمد أم أنّ أصل وجوهر الخلاف بين قريش وبينه قائماً على رفض هذه الدين الجديد الذي كان يُهدد مصالحهم وسيادتهم في المقام الأول؟ إذا طرحنا على أنفسنا هذه الأسئلة بتجرّد كبير، نجد أنّها تفضي إلى حقيقة مفادها أنّ هذه الحادثة مختلقة ولا أساس لها من الصحة. إنها أشبه ما تكون بتلك القصص الكاذبة والمختلقة التي تنتجها الماكينية الدعائية لتقوية موقف الإسلام وتعضيده حتى ولو كان بالباطل أو التلفيق، ومثل هذه المحاولات ما زال بعضها قائماً حتى الآن، فتلك القصص عن أشجار في شكل رجل راكع أو ساجد، وتلك السمكة التي نقش على بطنها جملة "لا إله إلا الله" وذلك الصبي الذي نقش على كفه عبارة "لا إله إلا الله" مثلاً أو غيرها من تلك الخزعبلات التي يحاولون بها إيهام الناس بأصالة الإسلام والتدليل على ذلك به.

هذه الرواية بها مفارقة أخرى غريبة، فلو كان الحبر اليهودي جاء لسؤال محمد عن أمر لا يعرفه إلا نبي، وكان ذلك من باب إقامة الحجة عليه، فإن من الإعجاز أن يتنزّل عليه الوحي في التو واللحظة حتى يُسكت المغرضين الذي يحاولون النيل من دعوة الإسلام أو يحاولون التشكيك في النبوة من أساسها. ولكن طلب محمد بالمهلة حتى نزول الوحي يدلنا على أمر آخر بعيد المعنى، وهو أنه في الحقيقة لم يكن في انتظار الوحي، كما تشير الآثار، بل كان يبحث عن إجابات لهذه الأسئلة من مصدرٍ ما ظل مجهولاً في كتب التاريخ والسيرة، وهذا المصدر كان هو مصدره في الكثير من القصص والأخبار التي أخبر بها قبل وبعد ذلك. وربما كان هذا المصدر شخصاً أو مجموعة أشخاص متفرقين، وربما علموا أو لم يعلموا باستفادة محمد من المعلومات التي يقدمونها له. والراجح أنهم لم يكونوا على دراية بذلك أبداً.

ومن المفارقات أيضاً أنّ إجابات محمد على أسئلة الحبر اليهودي بعد ذلك لم تكن دقيقة بما يكفي بل جاءت في صور عامة. فإجابة السؤال المتعلق بالروح كانت الإجابة عليه بـ( يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي) وإجابة السؤال عن أصحاب الكهف وعددهم كان غير واضح كفاية (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعه وثامنهم كلبهم "قل ربي اعلم بعدتهم" ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً) وربط هذه الإجابة باعتبار الخوض في هذه الأمور من الجدل والمراء الذي لا طائل منه، وبهذا أغلق الباب نهائياً حول أسئلة أخرى مشابهة. ومن الواضح أنّ محمداً لم يستطع الاتصال بمصدر أو مصادر معلوماته وحاول جاهداً في ذلك، فلما لم يستطع اختلق هذه الإجابة المبهمة التي لا توضح شيئاً من الأمر. فكيف لله أن يترك نبيّه في هذا الموقف المحرج، وأن يجعله مثار شكوك، في الوقت الذي كان فيه الواجب توفير كل سبل الإعجاز التي تهيأ له أمر الدعوة وتؤكد للمكذبين والمتشكيين صدق أمرها؟

فساد المفسّرين
يذكر القرآن هذه الآية (حتى اذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) وبالرجوع إلى أمهات كتب التفاسير المعتد بها مثل تفسير الجلالين نجده يُفسر لنا الآية على هذا النحو: "حَتَّى إذَا جَاءَنَا" الْعَاشِي بِقَرِينِهِ يَوْم الْقِيَامَة "قَالَ" لَهُ "يَا لَيْتَ" لِلتَّنْبِيهِ "بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ" أَيْ مِثْل بُعْد مَا بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب "فَبِئْسَ الْقَرِين"

ويوافقه ابن كثير في ذلك فيقول في تفسيره لذات الآية: أَيْ إِذَا وَافَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَوْم الْقِيَامَة يَتَبَرَّم مِنْ الشَّيْطَان الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَقَرَأَ بَعْضهمْ " حَتَّى إِذَا جَاءَانَا " يَعْنِي الْقَرِين وَالْمُقَارَن قَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ سَعِيد الْجُرَيْرِيّ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ الْكَافِر إِذَا بُعِثَ مِنْ قَبْره يَوْم الْقِيَامَة شَفَعَ بِيَدِهِ شَيْطَان فَلَمْ يُفَارِقهُ حَتَّى يُصَيِّرهُمَا اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى النَّار فَذَلِكَ حِين يَقُول " يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِين " وَالْمُرَاد بِالْمَشْرِقَيْنِ هَهُنَا هُوَ مَا بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ هَهُنَا تَغْلِيبًا كَمَا يُقَال : الْقَمَرَانِ وَالْعُمَرَانِ وَالْأَبَوَانِ قَالَهُ اِبْن جَرِير وَغَيْره .

وكذلك يتفق تفسير الطبري مع تفسير الجلالين وابن كثير في القول بأن المشرقين هما المشرق والمغرب، بينما يختلف تفسير القرطبي فيما ذهب إليه من أن المشرقين لا يُراد بهما المشرق والمغرب، بل يُقصد به مشرق الشتاء ومشرق الصيف، وفي ذلك يقول: "فَيَقُول الْكَافِر : " يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ " أَيْ مَشْرِق الشِّتَاء وَمَشْرِق الصَّيْف (...) وَقِرَاءَة التَّوْحِيد وَإِنْ كَانَ ظَاهِرهَا الْإِفْرَاد فَالْمَعْنَى لَهُمَا جَمِيعًا ; لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ بِمَا بَعْده ; كَمَا قَالَ : وَعَيْن لَهَا حَدْرَة بَدْرَة شُقَّتْ مَآقِيهمَا مِنْ أُخَرْ قَالَ مُقَاتِل 
: يَتَمَنَّى الْكَافِر أَنَّ بَيْنهمَا بُعْد الْمَشْرِق أَطْوَل يَوْم فِي السَّنَة إِلَى مَشْرِق أَقْصَر يَوْم فِي السَّنَة , وَلِذَلِكَ قَالَ : " بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ "

فإذا كان المشرقين في الآية السابقة تعني المشرق والمغرب حسب تفسير وترجيح غالب علماء التفسير، فما المقصود بـ(رب المشرقين والمغربين) الواردة في سورة الرحمن؟

يقول القرطبي مخالفاً لرأيه الأول في معنى "المشارق" بأن المقصود بالمشرقين والمغربين في هذه الآية هو "رب المشرقين" ليعيد إغلاق دائرة الحيرة مرّة أخرى. في حين يعود ابن كثير والجلالين والقرطبي ليُفسّروا المشرقين والمغربين على أنهما مشرقي الصيف والشتاء بعد أن كانوا قد قالوا أنّ المشرقين في الآية الأولى يُقصد بها "المشرق والمغرب"!! وكأن المشرقين إذا ذكرت وحدها تعني "المشرق والمغرب" وإذا ذكرت مع المغربين يكون المقصود بها شيء آخر وهو "مشرق الصيف ومشرق الشتاء!!"

وإذا صدقنا هذا التخبّط في التفسير بين تفسير آية "المشرقين" وحدها، وآية "المشرقين والمغربين" فترى ما هو تفسير (المشارق والمغارب) في الآية التي تقول (فلا اقسم برب المشارق والمغارب انا لقادرون ) في رأي أهل التفسير؟

يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا ابْن عُلَيَّة , قَالَ : أَخْبَرَنَا عُمَارَة بْن أَبِي حَفْصَة , عَنْ عِكْرِمَة , قَالَ : قَالَ ابْن عَبَّاس : إِنَّ الشَّمْس تَطْلُع كُلّ سَنَة فِي ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ كُوَّة , تَطْلُع كُلّ يَوْم فِي كُوَّة , لَا تَرْجِع إِلَى تِلْكَ الْكُوَّة إِلَى ذَلِكَ الْيَوْم مِنَ الْعَام الْمُقْبِل , وَلَا تَطْلُع إِلَّا وَهِيَ كَارِهَة , تَقُول : رَبّ لَا تُطْلِعنِي عَلَى عِبَادك , فَإِنِّي أَرَاهُمْ يَعْصُونَك , يَعْمَلُونَ بِمَعَاصِيك أَرَاهُمْ , قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْل أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : حَتَّى تُجَرّ وَتُجْلَدَ قُلْت : يَا مَوْلَاهُ وَتُجْلَدَ الشَّمْس ؟ فَقَالَ : عَضِضْت بِهَنِ أَبِيك , إِنَّمَا اضْطَرَّهُ الرَّوِيّ إِلَى الْجَلْد." وبهذا فإنه يقول بأنّ للشمس منازل تطلع وتغرب منها تختلف منازلها على مدار السنة، ولو تغاضينا عن النهج الأسطوري الذي رويت به هذه الرواية (وهو المشهور في أغلب القصص والنصوص الدينية) من امتناع الشمس عن الشروق على أناس يعبدون الله، وسحبها وجلدها إكراهاً لها على الشروق وما في ذلك من تناقض واضح وصريح مع مجمل النصوص القائلة بأن الأراضين والسموات السبع طائعة لله وتسير وفق تدبير إلهي مسبق بدليل الآية القائلة (ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين ) نجد أنّ هذا التفسير أقرب إلى التصديق على اعتبارات فلكية خاصة، ولكنها في الوقت ذاته تتناقض مع الآيتين الأوليين اللتان طالبنا بتفسيرهما آنفاً.

ويختلف ابن كثير مع الطبري في تفسيره لهذه الآية فيقول: "أَيْ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجَعَلَ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا وَسَخَّرَ الْكَوَاكِب تَبْدُو مِنْ مَشَارِقهَا وَتَغِيب فِي مَغَارِبهَا. وَتَقْدِير الْكَلَام لَيْسَ الْأَمْر كَمَا يَزْعُمُونَ أَنْ لَا مَعَاد وَلَا حِسَاب وَلَا بَعْث وَلَا نُشُور بَلْ كُلّ ذَلِكَ وَاقِع وَكَائِن لَا مَحَالَة" وهو بذلك لا يجد تفسيراً منطقياً لكون أنّ لشمس مشارق ومغارب متعددة وإذا عرفنا أن الفارق الزمني بين الطبري وبين ابن كثير يقارب الخمسمائة سنة تقريباً (تُحسب لصالح) الأخير نعرف أنه ليس من المعقول أن يجهل ابن كثير ما كان يعرفه الطبري من علوم الفلك التي عرفت في وقته إذ تذكر الكتب أن وفاة الطبري كانت في سنة 310 للهجرة، بينما تذكر أن وفاة ابن كثير كانت في السنة 464 للهجرة وعلى هذا فإنه من المنطقي أن تكون العلوم، بما فيها علم الفلك قد تطورّت كثيراً في عهد ابن كثير عما كانت عليه في عهد الطبري، ورغم ذلك نجد هذا الاختلاف.

ونخرج من هذا كله من نتيجة مفادها الآتي: إذا كان المفسرون المسلمون غير قادرين على الاتفاق على تفسير آية واحدة علماً بأنهم أئمة هذا العلم وإذا عرفنا أنّ الفقه الإسلامي يمنع عامة المسلمين من محاولات تفسير القرآن إلا للمتخصصين مخافة أن تسوق هذه المحاولات لبساً على هذه النصوص الدينية، فإننا سنجد أنفسنا أمام معضلة كبيرة تتراءى لنا على أنه احتكار لرجالات الدين على الدين وهيمنتهم عليه من ناحية، ومن ناحية أخرى تظهر لنا مدى الفساد الذي يُحدثه المؤرخون والمفسرون بعقول العامة. مع ملاحظة أنّ هذا الاختلاف اختلاف في أمور ظاهراتية وليست عقدية. وكذلك مع ملاحظة أنّ التفسير النصوص القرآنية يُعتبر عند الأغلب "علماً" له مناهجه وطرائقه التي من المفترض أن تكون أكثر دقة، فمن أين جاء هذا الاختلاف البيّن والصارخ؟وألا يخالف قولهم ذلك عن "المشرقين" و "المشارق" ما جاء في الحديث الصحيح: (ن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها... إلخ)؟

الرسول مصارع الجن:
جاء في صحيح البخاري أنّ محمداً قد تعرّض له الشيطان في صلاته وأنه أمسك بك وصارعه وكان على وشك أن يقيّده في إحدى سواري المسجد. وفي ذلك نذكر الحديث: "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن عفريتا تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي , فأمكنني الله منه , وأردت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد , ثم ذكرت قول أخي سليمان (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي (فأرسلته , فلولا ذلك لأصبح يلعب به ولدان المدينة" . وهنالك صيغة أخرى من صيغ هذا الحديث تذكر أنه لم يكن "عفريتاً" بل كان "شيطاناً" لأن الشيطان هو من يوسوس للإنسان في صلاته وليس العفريت كما حاول علماء الدين التفريق بينهما أي بين الجنّ "العفريت" وبين الشيطان. وهذا الأثر فيه الكثير من الخرافة التي يجب أن تخضع للتمحيص والتدقيق من جميع أشكالها وجوانبها:

الجانب الأول: هذا الحديث غير صحيح من جانب أن الأنبياء معصومون وبالتالي فإن تفلت الشيطان أو الجن على نبي هو أمر غير وارد الحدوث إلا إذا كان الكلام في معرض إظهار قوة النبي الخارق الذي يقاوم حتى الجن والعفاريت والمخلوقات غير المرئية. ومن ناحية أخرى فإن الشيطان أو الجن ليس عليهم سلطان على المؤمنين وذلك لأن المؤمنون وليهم الله الذي يحفظهم ويكلأهم برعايته طالما أنهم مواظبون على الأذكار التي تحول بينهم وبين الجان، فكيف بالنبي؟

الجانب الثاني: في قوله (ليقطع عليّ صلاتي) يعني أنه كان في حالة تعبّدية، ويذكر العديد من كتب الأثر والسيرة نقلاً عن بعض الصحابة أو التابعين دخلهم في حالة تسامي في لحظات الصلاة والخشوع فيه، ورد في الأثر أنّ عبّاد بن بشر وعمّار بن ياسر (وهما صحابيان) كانا في "رباط" مناوبة ليلية فنام عمّار وترك عباداً يصلي، وبينما هو يصلي خرج عليهما أحد المشركين فسدد سهماً على عبّاد بن بشر فأصاب ذراعه اليمنى ولم يقطع عباد صلاته بل واصل فيها، فسدد المشرك سهماً آخراً فأصاب ذراعه الأخرى "اليسرى" فلم يقطع صلاته، ثم سدد سهماً في ظهره حتى أريقت دماؤه، وهو ما يزال قائماً يُصلي .. حتى تذكر الرواية، أنّ عباداً يقول بعد ذلك عن تلك الحادثة "فوالله لولا خوفي أن يؤتي المسلمون من قبلي لما قطعت صلاتي" أيّ أنه بعد ذلك أيقظ عماراً. وهذا الحديث الخرافي المختلق لهو كذب بيّن من عدّة أوجه فما كان لعبّاد أن يفطن لوجود المشرك أو أن يخاف أن يؤتى المسلمون من قبله إلا بعد ثلاث إصابات من السهم؟ وكيف لرجل أن يصوّب سهمه فيصيب ذراعاً يمنى ثمّ يصوّب الأخرى فتصيب الذراع اليُسرى إلا أن يغيّر تمركزه من جهة إلى أخرى؟ هذا الحديث رغم كذبه الواضح إلا أنه مذكور في كتب الأثر لاسيما ما يأتي فيها من ذكر خشوع الصحابة في الصلاة، وفي مقابل اللذة المزعومة التي في العبادة والصلاة! فإذا كان عبّاد بن بشر لم يقطع صلاته لثلاث أسهم فكيف يقطع النبي محمد صلاته لتفلّت عفريت من الجني عليّه؟ وذلك في قوله (فأمكنني الله منه). وكذلك من ضمن الآثار التي ترد في ذكر خشوع السلف الصالح تلك الرواية المكذوبة التي تتناولها بعض الكتب عن عروة بن الزبير عندما أرادوا أن يبتروا ساقه المصابة، ورفضه لأن يخضع لعملية تخدير بقوله "أعوذ بالله أن أستعين بمعصية الله على ما أرجوه من عافية. دعوني أصلي ثم افعلوا ما بدا لكم" ثمّ كبر ودخل في الصلاة فبتروا ساقه بمنشار ثم وضعوا رجله في زيت مغلي حتى ينقطع الدم حتى أخشي عليه" وهذه الرواية العنترية واضحة الكذب والتلفيق بما فيها من عدم احترام لعقلية الناس إلا أنها أيضاً تأتي في ذات السياق عند ذكر الخشوع في الصلاة، فكيف لأتابع نبي أن يتفوقوا عليه في الخشوع في الصلاة؟

الجانب الثالث: فيه مبالغة غير منطقية من قدرة محمد أو أيّ بشر كان على ربط وتقييد جني على سارية! فمن المعلوم أن الجن في الثقافة الدينية هم مخلوقات غير مرئية، فإذا صدقنا بأنه بالإمكان الإمساك به وربطه، فكيف يكون لنبي أن يفعل ذلك من أجل أن يتسلى به أطفال المدينة وهو الذي يذيع عن نفسه بأنه رسول الرحمة المهداة للعالمين؟

الجانب الرابع: من هذا العفريت اللئيم الذي استطاع أن يستغفل العناية الإلهية ومن ثم يستغفل قرين النبي محمد (الذي ذكر في الأثر أنه قد أسلم)؟ كيف استطاع هذا العفريت أن يتجاوز كل هذه الحراسات المشددة حول شخصية النبي وأن يتفلت عليه في الصلاة؟ علماً بأن المسلم في حال الصلاة يكون طاهراً والجن والشياطين لا يقربون المتطهرين؟

الجانب الخامس: يقول الحديث على لسان النبي محمد (ثم ذكرت قول أخي سليمان ...) وهذه كذبة أخرى غير متسقة مع سياق ما ورد حول دعوة الملك سليمان. فلقد تساءل البعض عن كيفية تجرؤ سليمان على الله وطلبه منه مثل هذا الطلب من عرض الدنيا (هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) والحقيقة أنّ المفسرين (كعادتهم) اختلفوا في تفسير ذلك، فمنهم من قال: أنّ ذلك ممكن كما حدث مع يوسف بن يعقوب حين قال (اجعلني على خزائن الأرض) غير أنّ هذه الفئة من المفسرين نسوا أنّ المخاطب في هذا الخطاب هو ملك مصر وليس الله. وهنالك فئة أخرى تقول بأن المقصود بالملك هنا هي المعجزة. ولكن هذه الفئة لم تفسّر كيف يطالب نبي بأن تكون له معجزة مخصصة لا تنبغي لأحدٍ من بعده، وفي هذه الجزئية بالتحديد تأتي أقوال المفسرين الآخرين الذين يقولون أنه كان يقصد بقوله (بعدي) أيّ ملك آخر بعد فخصصت الدعوة بالملوك، وقال البعض الآخر، أنه كان يقصد الناس عموماً بمن فيهم الملوك، ويستثنى من ذلك طبعاً الأنبياء ، إلا أنّ ذلك يبان عدم صدقه في السياق التاريخي للأديان، فلم نجد نبياً أو رسولاً يدعي ملكاً كالذي امتلكه سليمان أو حتى والده داؤد، كذلك فإن هؤلاء الفئة من المفسرين أغفلوا بأن امتناع محمد عن تقييد العفريت كان من أجل دعوة سليمان مما يدل على أنّ الدعوة شملت الأنبياء أيضاً.

مما تقدّم يتأكد لنا أنّ هذا الحديث مختلق وكذب وهراء لا علّة يقوم عليها، وعندما نعلم ورود هذا الحديث في الصحيح، فإننا نتساءل: من الكاذب: محمد أو البخاري ورواة هذا الحديث الذين أخذ عنهم؟ فإذا كنا لن نصدّق بأن يكذب نبي الإنسانية والرحمة الذي حرّم الكذب وجعله خصلة من خصال المنافقين، فإن التخمين الأقرب إلى التصديق والصحة هو أنّ هذا الحديث مكذوب عليه، فكيف يرد حديث خرافي كهذا الحديث الكاذب في كتاب مثل (صحيح البخاري)؟ وإذا عرفنا ما قيل عن البخاري من دقة منهجه في جمع الحديث، وتحريه للمصادر والأسانيد؛ أفلا يجعلنا هذا نتشكك في بقية الأحاديث الواردة في هذا الكتاب؟

خرافة الإسراء والمعراج:
يذكر الترمذي في سننه حديث المعراج فيقول: "حدثنا أبو بكر قال حدثنا الحسن بن موسى بن الأشيب قال حدثنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل , يضع حافره عند منتهى طرفه , فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء , ثم دخلت فصليت فيه ركعتين , ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ; فاخترت اللبن , فقال جبريل : أصبت الفطرة قال : ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , فقيل : وقد أرسل إليه ؟ فقال : قد أرسل إليه , ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب ودعا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل : ومن أنت ؟ قال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد , فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه , ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا ودعوا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل : ومن أنت ؟ فقال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد , قالوا : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه , ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب ودعا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل : ومن أنت ؟ فقال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم فقيل : وقد أرسل إليه ؟ فقال : قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير , ثم قال : يقول الله { ورفعناه مكانا عليا } ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ فقال : محمد , فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه , ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل , فقيل : ومن معك؟ قال محمد , فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه , ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب ودعا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد , فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه , ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم وإذا هو مسند إلى البيت المعمور , وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه , ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها أمثال القلال.

فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت , فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها , قال : فأوحى الله إلي ما أوحى, وفرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة , فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قال : قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة , فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك , فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم , قال : فرجعت إلى ربي فقلت له : رب خفف عن أمتي , فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقال : ما فعلت ؟ فقلت : حط عني خمسا , قال : إن أمتك لا تطيق ذلك , فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك , فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى عليه السلام فيحط عني خمسا خمسا حتى قال : يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة , بكل صلاة عشر , فتلك خمسون صلاة , ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا , ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب له شيئا , [ ص: 445 ] فإن عملها كتبت سيئة واحدة , فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت}

بينما يذكر الإمام أحمد في مسنده حديث المعراج فصيغة مغايرة تماماً إذ يقول: حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف عن زرارة بن أوفى قال : قال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لما كان ليلة أسري بي أصبحت بمكة , قال : فظعت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي , فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معتزلا حزينا فمر به أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ قال نعم , قال : وما هو ؟ قال : أسري بي الليلة قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس : قال : ثم أصبحت بين أظهرنا ؟ قال : نعم , فلم يرد أنه يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه , قال : أتحدث قومك ما حدثتني إن دعوتهم إليك ؟ قال : نعم , قال , هيا معشر بني كعب بن لؤي هلم , قال : فتنفضت المجالس فجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال : حدث قومك ما حدثتني , قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أسري بي الليلة , قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس , قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم , قال : فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب زعم , وقالوا : أتستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ قال : وفي القوم من سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذهبت أنعت لهم , فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت , فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو دار عقال , فنعته وأنا أنظر إليه , فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب}

وقد ذكر حديث المعراج في أكثر من مرجع كسنن النسائي وسنن ابن ماجه وغيرهما باختلاف الرواية. وربما يكون اختلاف الروايات الواردة في حديث المعراج عائداً إلى اختلاف المناسبات التي قيلت فيها، فلقد كانت حادثة الإسراء والمعراج حادثة من الحوادث المهمة في التاريخ الإسلامي، إذ يكتسب محمد بها قدسيته وحجته السماوية من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه كان بحاجة إلى دعم معنوي ومادي قويين لاسيما في تلك الظروف النفسية الصعبة التي كان يمر بها قبل الهجرة المحمدية إلى المدينة ذلك العام والذي سًمّي بعام الحزن. ولكننا نقف هنا على هاتين الروايتين الواردتين في شأن حديث الإسراء والمعراج لنعرف مدى صدق الرواية من كذبها بنوع من التحليل. فترى ما الغرض الإلهي من هذه الرحلة السماوية، إذا كانت الرحلة قد حدثت فعلاً؟ وإلا فما مناسبة هذه القصة المختلقة ومبرراتها إذا كانت مختلقة بالفعل؟

في حديث المعراج الوارد في سنن الترمذي نجد أنّ الحديث منقول على لسان محمد مباشرة، فهو المتحدث والسارد لهذه القصة، وإذا كنا سوف نصدّق قصة المعراج فإننا لن نصدق روايته لها بتلك الطريقة التي تخلو من أيّ بلاغة لغوية كان مشهوراً بها. فكيف لعربي فصيح أن يول مثلاً (دابة أبيض) ولا يقول (دابة بيضاء). أيضاً فإن الوصف الخرافي للدابة كان مناسباً تماماً للمناسبة الخرافية ذاتها، فقد ذكرت بعض الروايات أنّ محمداً وجبريل وهما راكبان على البراق مرّا على دواب لقريش فجفلت، وتساءل القوم عن ذلك الشيء الذي مرّ سريعاً أمامهم، فقال بعضهم "إنها مجرّد ريح" في كناية عن سرعة الدابة "البراق" فكيف بعد ذلك يأتي ليقول (فركبته فسار بي) فكيف يكون السير وصفاً للريح أو لما يشبه الريح؟

ومما يثير التساؤل كذلك، الأمر الذي دفع محمداً لأن يربط الدابة في قوله (فربطت الدابة بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء) فهل خاف أن تجفل الدابة وهي دابة سماوية مأمورة؟ وكما قال البعض هل يخاف أن تهرب وقد وهبها الله له؟ وكانت تلك من الأمور غير المبررة في الرواية، والواقع أنّ المخيّلة العربية لا تستطيع النزوح بعيداً عن الإرث العربي ذاته، فربط الدواب هو إرث وتقليد عربي لا يمكن أن ينسجم مع قصة خيالية من هذا النوع. ومما يدعو للتساؤل والحيرة أنّ تنطبق السنن الأرضية على مخلوق سماوي خرافي كالبراق، فربط الكائن يوحي بأنّ لديه لجاماً من نوعٍ ما، وهذا مما لا يُمكن أن يُفهم في سياق هذه القصة غير الواقعية. فإذا كان الله قد خلق البراق خصيصاً لهذا الغرض، أي غرض إيصال محمد إلى بيت المقدس، فهذا يستدعي أن نؤمن أنه قد خلق بلجام، وهذا ما لا يُمكن أن يُصدّقه عاقل.

ثم إنّ بعض الروايات تذكر أنّ جبريلاً أردف محمداً وراءه على ظهر البراق. وهذه فيها مبالغة من خيال عربي محدود. فمعظم الروايات الثقات التي ذكرت البراق وصفته بأنه (فوق الحمار ودون البغل) ولا شك أنّ هذا حيواناً بهذا الحج قد يكون مناسباً لأن يركبه آدمي، ولكن ليس لكائن مهول "شديد القوى" كجبريل الذي وصفه محمد في إحدى أحاديثه الواردة في صحيح مسلم إذ يقول: "رأيته منهبطاً من السماء، سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض". ووصف لبعض الملك بقوله في الحديث الذي رواه أبو داود : " أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش، ما بين شحمة أذنه وعاتقه، مسيرة سبعمائة عام " ومن المعلوم أن جبريل هو كبير الملائكة قدراً ومنزلة. رغم أن القول بأنه كان لحظة الإرداف متشكلاً بخلقة آدمية أو ما دونها بقليل أو ما فوقها بقليل هو قول وارد، ولكن ألم يكن من الحكمة والمنطق أن يقوم جبريل بحمل محمد مباشرة إلى بيت المقدس دون الحاجة إلى كائن مثل البراق؟ وإلا فما الحكمة من خلق البراق مع وجود ملك كجبريل قادر على نقل محمد من مكة إلى بيت المقدس في لحظات؟ وإذا علمنا أن الملائكة كائنات لها قدرات خارقة أكثر مما يمتلك بقية المخلوقات من الإنس والجن، القادرين على حمل عرش ملكة سبأ قبل ارتاد الطرف، أفيعجز بعد ذلك جبريل عن نقل محمد من مكة إلى بيت المقدس؟

ثم نجد في قوله على لسان "جبريل" (أصبت الفطرة) أنه لا يبتعد كثيراً عن المخيّلة العربية إذ أن شراب بل وغذاء العرب الأول هو اللبن فهو فطرتهم أي فطرة العرب وليست فطرة الإنسان عموماً، ولم تُعرف حكمة هذا الاختبار لاسيما وأنها قد جاءت مباشرة قبل المعراج، فما الحكمة من تناول اللبن قبل المعراج مباشرة؟ هل في اللبن عنصر يساعد على تقليل الإحساس بالضغط الجوي مثلاً أو شيء من هذا القبيل؟ أم كان ذلك مجرّد تكريس واعٍ لحرمانية الخمر وكراهيته، لاسيما وأنّ ذلك الوقت كان الوقت الذي تم فيه تحريم الخمر في الفترة المكية من الدعوة.

ثم ومع صعود جبريل ومحمد إلى السماء في رحلتهم إلى سدرة المنتهى نجد أنّ هنالك العديد من التناقضات التي ترد على لسان الراوي وهو محمد نفسه فيما يرويه من أحداث تلك الرحلة العجيبة.


فهو يقول: " ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , فقيل : وقد أرسل إليه ؟ فقال : قد أرسل إليه , ففتح لنا) وإذا كنا سوف نصوّر هذا المشهد الدرامي بطريقة مبسّطة فسوف نعلم أنّ هنالك باباً يقف من ورائه ملائكة السماء الأولى والثانية والثالثة . إلخ.


وهم بالضرورة لا يرون من هو دون هذا الباب، ولذا فهم يسألون "من أنت؟" لأنهم لا يرونه. وفي هذا تشكيك، لأنه من غير المنطقي ألا يتعرف ملائكة السماء إلى صوت جبريل "روح القدس" وإذا تجاوزنا عن هذه النقطة، وقلنا أنّهم مأمورون بالتأكد من هوية كل من يمر بهذه الأبواب وأنهم ما كانوا يسألون إلا زيادة في التأكيد؛ فكيف عرفوا أن من وراء الباب بمعيته شخص آخر ليسألوا (ومن معك ؟) وإذا تجاوزنا عن هذه المسألة على اعتبار أنّهم ربما قد سمعوا صوتاً آخر غير صوت جبريل فتشككوا في الأمر فكيف لم يتعرفوا على محمد عند قولهم (وقد أرسل إليه ؟) وهما في هذا إنما يسألون ما إذا كان هذا المحمد الذي يتكلم عنه جبريل رسولاً أم لا .. فهذا الأمر لا ينطبق مع الآية التي تقول (إن الله وملائكته يصلون على النبي ..) فكيف لا يعرف الملائكة محمداً؛ ذلك الرسول الذي يصلون عليه وتكون صلاتهم جزءاً من عبادتهم؟! ثم إنّ الأمر ظل يتكرر في كل سماء مما يعني أنّ ملائكة السماء كلهم لا يعرفون محمداً، وهو الأمر الأغرب على الإطلاق في مجمل القصة. ثم إن السؤال يبدأ بالتغيّر اعتباراً من السماء الخامسة ليكون (وقد بعث إليه) بدلاً من (وقد أرسل إليه) دلالة على أنّ تلك السماوات لا يصلها إلا الأنبياء وليس الرسل فقط.

نلاحظ في الرواية التي يرويها محمد عن رحلته السماوية المعروفة بالمعراج أنّه كان يجد على كل باب يدخل منه رسولاً أو نبياً من الأنبياء وهم حسب الترتيب كالآتي:

السماء الأولى: آدم
السماء الثانية: يحيى وعيسى
السماء الثالثة: يوسف
السماء الرابعة: إدريس
السماء الخامسة: هارون
السماء السادسة: موسى
السماء السابعة: إبراهيم

وهنا نلاحظ أمراً غاية في الغرابة، فمنذ الباب الأول وحتى الخامس، كانت ملائكة السماء يسألون جبريل (أو أرسل إليه؟) في دلالة على أنّ السماوات الدنيا (من 1 إلى 5) لا يدخلها إلى الرسل، بينما اختلف السؤال منذ السماء الخامسة ليصبح (أو بعث إليه؟) في دلالة على أن السماوات العليا (من 5 إلى 7) لا يدخلها إلى أنبياء فقط. ورغم ذلك فإننا نجد في السماوات الدنيا عيسى (في السماء الثانية) وهو من الأنبياء بينما نجد هارون (في السماء الخامسة) وهو من الرسل، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن سرّ هذا الترتيب. كما أنّ محمداً أشار في حديثه عن (إرديس) بالآية التي تذكره (ورفعناه مكاناً عليا) فهل السماء الرابعة مكان عليّ أكثر من الخامسة والسادسة والسابعة؟ بل وأين بقية الأنبياء؟ وأغلب الظن أنّه لو كان هنالك أكثر من سبع سموات لذكر أكثر من ذلك. ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: ماذا يفعل هؤلاء الأنبياء والرسل بين السماوات بينما كان من المفترض أن يكونوا في الجنة ونعيمها؟ هل كانوا في استقبال محمد مثلاً؟ أم أنّ لوضع كل منهم في درجته رمز يجب علينا أن نفهمه؟

إن قصة الإسراء والمعراج تأتي في سياق الدعاية وتجديد القداسة التي كادت أن تبارح شخصية محمد بعدما بدأ البعض يتشككون في أمر رسالته ونبوته عام الحزن، لأن بعضهم قال: لو كان نبياً لما سمح الله بأن يحدث له كل ذلك في عام واحد. ولقد برع أيمّا براعة في تقديم قصته التي لم يصدقها غير القليلون من أمثال أبو بكر، ولم يصدقها القرشيّون، ورغم أنّ حادثة الإسراء كانت (إذا حدثت) معجزة بكل المقاييس إلا أنها لم تلق حظها من الانتشار بين أوساط مسلمي مكة ولا حتى مسلمي المدينة بعد ذلك. بل تناول بعض العلماء من المتأخرين رواية الإسراء والمعراج بجانب من التكذيب على شخصية محمد فقالوا بأنّه لم يصلِ في بيت المقدس وأنّه ما قيل حول ذلك إنما هو محظ كذب وافتراء عليه. ومن ذلك ما دار بين حذيفة بن اليمان (الذي كان يلّقب بحافظ سر النبي) وزر بن حبيش حول مسألة صلاة النبي في بيت المقدس، فكان رأي حذيفة بن اليمان أنّه لم يصلِ في بيت المقدس بينما كان زر بن حبيش يؤكد أن محمداً قد صلى في بيت المقدس، كما أنّ حذيفة بن اليمان كان يستهزأ بمسألة ربط محمد للجام البراق كما ورد في سنن الترمذي المتقدم. ولذا نجد (حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن حذيفة بن اليمان { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق هو دابة أبيض طويل يضع حافره عند منتهى طرفه , قال : فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى أتيا بيت المقدس ؟ وفتحت لهما أبواب السماء رأيا الجنة والنار قال : وقال حذيفة : ولم يصل في بيت المقدس , قال زر : فقلت : بلى قد صلى , قال حذيفة : ما اسمك يا أصلع فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك ؟ قال : قلت [ ص: 446 ] زر بن حبيش , قال : فقال : وما يدريك وهل تجده صلى ؟ قال : قلت : يقول الله : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } قال : وهل تجده صلى , أنه لو صلى فيه صلينا فيه كما نصلي في المسجد الحرام , وقيل لحذيفة : وربط الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ؟ فقال حذيفة : أوكان يخاف أن تذهب وقد آتاه الله بها}؟

أما في حديث فرض الصلوات الخمس على أمة محمد والحديث الذي دار بين محمد وبين موسى ففيه كلام كثير، ولنعرف لم سأل موسى عما افترضه الله على أمة محمد ولم يسأل إبراهيم مثلاً رغم أنه كان أقرب إليه منه. وهذا كلام آخر يطول، وبه ما به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق