الجمعة، 15 أكتوبر 2010

جدلية النص الديني والتأويل - 1

ظهرت، خلال السنوات الأخيرة، في الوطن العربي وبعض أجزاء أخرى من العالم، أسماء لها مكانتها العلمية، تحاول التوفيق بين النصوص الدينية وبين المنجزات العلمية الحديثة، على افتراض أنه لا يوجد تناقض أو تعارض، على الإطلاق، بين الدين والعلم، وأنهما، ربما، كانا وجهين لعملة واحدة. واعتمدوا في ذلك على أن إشكالية النصوص الدينية تكمن في أخطاء التأويل أو التفسير. وحيث أنهم لا يريدون خدش حياء العامة، أو حتى الخاصة، فإنهم يُرجئون هذه الأخطاء إلى كمّ المعارف التي توفرت في أزمنة هؤلاء المفسرين، محاولين بذلك إيجاد عذر لهم، من حيث أنهم اجتهدوا حسب المُتاح من العلوم والمعارف في وقتهم؛ وإذ تتعارض تفسيراتهم المبنية على معارفهم القاصرة مع تفسيرات المفسرين في العصور المتأخرة، فإنهم يرون أن النص نفسه لا يتغيّر، بل يحدث تجديد في معاني النصوص بتجدد المعارف العلمية المختلفة، دون أن يحاول أحدهم الإجابة على السؤال الكبير: "كيف يمكن لنص واحد أن يحتوي على تفسيرين، دون أن يفترض الخطأ في أحدهما؟"

قد نشهد اختلاف المعاني والتأويلات على النصوص الإبداعية الأدبية؛ بل إن اختلاف التأويلات في النص الأدبي يعتبر واحدة من مميزات الأعمال الأدبية وخصائصها، وكلما زادت التأويلات في العمل الأدبي المُحدد كلما زادت قيمته الإبداعية، وقد قامت على ذلك مدارس نقدية كبيرة، وتم التنظير لمسألة المعنى والدلالة وتحليل الخطاب من قبل العديد من الفلاسفة والنقاد الكبار، وأوسعوا الأمر برمته نقاشاً وتحليلًا، فظهرت البنيوية والوظيفية والوجودية والتفكيكية وغيرها، ولكن هل يمكن أن ينطبق الشيء ذاته على النصوص المقدسة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقبع في إجابة سؤال آخر: "ما هي وظيفة النصوص المقدسة؟" بإمكاننا جميعًا الإفتاء حول هذه المسألة حسب تصوّراتنا الذهنية لماهية الدين ووظيفته، ولكن هل بإمكان أحدنا الجزم بإجابة واحدة قاطعة ومُؤكدة؟

إن كانت النصوص المقدسة ذات وظيفة إرشادية ووعظية، تحرص على تبيان الإيمان القويم [Orthodox] فإنه من الصعب الاعتقاد بوجود علاقة بين هذه النصوص وبين المنجزات العلمية على الإطلاق؛ إذ ليس ثمة علاقة تجمع بين مسائل العبادة والتديّن، والتحريم والإباحة، والخير والشر، والعبودية والكهنوتية وبين العلم ومنجزاته، بل قد لا يلتقيان على الإطلاق. وإن كانت النصوص المقدسة ذات وظيفة تنظيمية ودستورية، تحرص على تبيان السلوك القويم [Catholic] فإنه، أيضًا، من العسير علينا الاعتقاد بوجود علاقة بينهما، فما العلاقة بين: المعاملات السلوكية، والتشريعات، والحدود، والقصاص، والفرائض، والديّات، والوصايا الأخلاقية وبين العلم ومنجزاته؟ أما إذا كانت النصوص المقدسة ذات وظيفة تنويرية (حسب المفهوم الفلسفي التأملي)، بحيث تحاول هذه النصوص إرشاد الناس وتعريفهم بالكون والطبيعة والكائنات وحركتها، وصولًا إلى الله، فإنه لاشك له علاقة وثيقة بالعلم، ولكنه، عندها، سوف يفقد صفة القداسة. ببساطة، لأن هذه المعارف متجددة ومتبدلة على الدوام، بل ولا تقوم إلا على مبدأ الشك الدائم، لا على اليقين، وهو ما يتنافى مع مفهوم القداسة، كما أننا سوف نتساءل عندها: "إذا كانت وظيفة الأديان تأملية، فلماذا الفرائض والعبادات والطقوس والشعائر؟" ألا يُمكن إنجاز هذه الوظيفة التأملية دون هذه الفرائض الشكلية؟

إن واحدة من أكبر المشكلات التي نعاني منها، في سبيل الحصول على إجابات شافية، هو أنه لا يوجد تعريف محدد للدين أو وظيفته؛ لاسيما عندما يتعلق الأمر بالقضايا الجمعية المشتركة، وليس الفردية. هذا على افتراض أن الأديان لم تأت أصلًا إلا من أجل خلق مجتمعات متدينة، وليس أفرادًا متدينين. لأن وجود الفرد المتديّن في حد ذاته لا يخلق مشكلة، ولا يفرض تساؤلًا، بقدر ما يفرضه وجود مجتمع متديّن، وعندها سيكون سؤالنا التالي مشروعًا: "ألا يمكن قيام مجتمع سوي وأخلاقي بلا دين أو تدين؟"

سوف أحاول في هذا المبحث التركيز على تحليل النص المقدس، في محاولة للبحث عن إجابات لتساؤلاتنا السابقة، وسوف آخذ القرآن (كتاب المسلمين المقدس) كنموذج، والحقيقة فإن السبب الذي جعل القرآن مُعجزًا، هو ذاته الذي سوف يجعله ورطة؛ ألا وهو (البلاغة اللغوية). إن البلاغة في جزء منها مُناطة بالإيضاح والبيان، وهو ما يفتقر إليه النص القرآني بشدة، وبالتالي ينفي عنه البلاغة؛ إلا إذا اقتصرنا البلاغة على المحسنات البديعية كالطباق والجناس والسجع وغيرها من الملونات البديعية التي يزخر بها القرآن، فهذه منتشرة في لغة العرب، وخطبهم وحتى أشعارهم. وهذه المحسنات البديعية على ضرورتها في النص الأدبي إلا أنها غير مُحبذة في النصوص التشريعية التي تفترض الاقتصاد في اللفظ والمباشرة في المعنى، ولقد لجأ الإنسان إلى الاقتصاد اللغوي حتى بلغ درجة الرمز كبديل للغة وذلك في الأمور التي لا تحتمل الخطأ والتأويل، المعادلات الفيزيائية والكيميائية والصيغ الرياضية، وغيرهما.

إن الفكرة المدهشة في القرآن، والتي أدهشت العرب، هي المزاوجة بين الشعر والنثر؛ ساعد على ذلك أن العرب لم يكونوا يعرفون من فنون الأدب، في ذلك الوقت، إلا فنيّ الشعر والخطابة، أما الفن النثري فلم يكن بذي بال على الإطلاق، فلم تكن الحكايا والقصص لم تكن فنوناً أدبية تصاغ بطريقة أسلوبية تحكمها قوانين كالتي تحكم كلًا من الشعر والخطابة، والمزاوجة بين فنيّ الشعر والنثر هو ما جعل من النص القرآني نصًا جذابًا وغريبًا في ذات الوقت؛ ولذا فلقد وقف العرب أمام هذا الفن الجديد بدهشة بالغة، في محاولة لتفكيكه ومعرفة ماهيته وكنهه.

إن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه فكرة الله، هو (الإطلاق) في كل شيء، فكل ما يعجز عنه الإنسان، وما يفوق تصوّراته وقدراته يدخل مباشرة ضمن الإطار الإلهي: إما قدرة، أو معرفة، أو إدراكاً، أو حتى مشيئة. وهذا الإطلاق، الذي هو أهم صفات الذات الإلهية، هو نفسه العيب الوحيد الذي يعتريها، وربما كان العيب القاتل الذي فيه فناء الفكرة نفسها. وسوف أتطرق إلى إشكاليات الإطلاق بشيء من التفصيل في مبحث آخر، ولكن يهمني في هذا المبحث أن أربط هذه الجزئية بمسألة جدلية النص والتأويل، وهو صلب المبحث وجوهره، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض، دعونا نتناول بعض الأمثلة على تجاوز التأويل للنص، ودلالات ذلك:

فإذا قلنا مثلًا: A [لا تخرجوا من بيوتكم] فهذا [نص]، ولو نظرنا إلى هذا النص لوجدنا أنه محتوٍ على [معنى] واضح ومحدد، وبإمكاننا تغيير النص دون الإخلال بالمعنى على الإطلاق، كأن نقول: [لا تتركوا بيوتكم] أو [لا تغادروا بيوتكم]، وهكذا نرى أن النص يتغيّر، ولكن تظل الفكرة والمعنى واضحين في كل نص. ولو حاولنا ترجمة النص إلى لغة أجنبية (الإنكليزية مثلًا)، فرغم أنه توجد عدة طرق لصياغة النص؛ إلا أنه سوف لن يختلف اثنان في ترجمة المعنى، لأننا في الحقيقة نترجم المعنى وليس النص، فنقول: [Do not go out of your houses] أو [Do not leave your houses] أو [Do not get out of your houses] فلا اختلاف يُذكر بين المعنى العربي والمعنى الأجنبي، فالمعنيان واضحان، ومن هذا الوضوح نستنتج [الحكم] وهو منع الخروج من البيت، ويلاحظ في هذا النص أنه لا توجد استثناءات على الإطلاق، فهذا النص يحتوي، داخل معناه، في حكمه عدم الخروج من البيت في أي وقت: حاضري أو مستقبلي، ولأي سبب: مشروع أو غير مشروع، فإن كان المعنى بهذا الوضوح فإنه لا يوجد مُبرر واحد بالقول أن هذا المعنى قد يختلف تأويلًا في أزمنة لاحقة يُصبح فيها الخروج أمرًا ضروريًا، لأن هذا التأويل يعني أن واضع النص لم يضع هذا التطوّر الزماني في حُسبانه، وهو ما لا يُمكن أن ينطبق على الذات الإلهية المطلقة، ولهذا فإن هذا النص مُحكم، إذ لا يحوجنا إلى التأويل، فالتأويل داخل معناه الذي يحمله النص نفسه.

أما إذا قلنا مثلًا: B [لا تخرجوا من بيوتكم إلا في الأعياد] فإن النص يحصر الاستثناء في ما لا يمكن الاتفاق على تأويله، ولهذا فإننا نقول: إن النص غير واضح، ويحتاج إلى تأويل، حتى نفهم المقصود بكلمة [الأعياد]. فكيف يمكن استنتاج ماهية الأعياد المقصودة في هذا النص؟ وإذا افترضنا أن المقصود هو العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى مثلًا، فكيف يمكن الجزم بأن تأويلنا لهذا اللفظ هو المقصود بالتحديد دوناً عن سواه، لاسيما وأنه لم يقل (إلا في العيدين)؟ بل إنه يصعب علينا ترجمة النص ما لم نتمكن من فهم المعنى، لهذا السبب نقول: إن هذا النص غير مُحكم، ولن نقول إنه مُبهم، ولكنه مفتوح على احتمالات وتكهنات كثيرة، وإذا عرفنا أن خروجنا من بيوتنا في غير العيد المقصود قد يعرضنا لعقوبة أخروية شديدة، فإنه يتضح لنا خطورة أن نترك تأويل النص لغير كاتبه أو مُشرّعه. فنحن بإمكاننا أن نخمّن أن الأعياد قد تشمل (إضافة إلى أعياد المسلمين): أعياد الميلاد الشخصية، وأعياد المناسبات القومية، وأعياد الحب، وأعياد الأم، وأعياد العمّال ... وإلخ، فلا شيء في النص يمنعنا من ألا نخمّن ذلك. من هنا نستنتج أن النص إذا كان تشريعًا تترتب عليه عقوبة أو حكم فإنه لا أقل من أن يكون واضحاً لا لبس فيه، حتى يتمكن الإنسان من تنفيذ الحكم المحمول في النص؛ وإلا فإن الخطأ وارد.

حسناً؛ إذا كان الذي صاغ النص B هو الله ذو الصفات المطلقة، فهذا يعني أنه يعلم، بعلمه المطلق، أن النص غير واضح وقابل للتأويل، وهذا يعني أنه لا يجوز لنا القول: "إنه كان يعتقد أن النص واضح وغير قابل للتأويل"، لأن عدم وضوح النص واضح! وحيث أن الله ذو صفات مطلقة فإن جميع الاحتمالات الآتية يجب أن تبنى على هذا الأساس، فهو إما أراد (بإرادته المطلقة) أن يترك النص مفتوحًا للاجتهاد البشري بأن يختاروا الأعياد التي نخرج فيها، وتلك التي لا نخرج فيها، أو أنه شاء (بمشيئته المطلقة) أن يُخطئ البعض في فهم النص فيُعاقبهم، وأن ينجح البعض في فهم النص فيُكافئهم، ففي الحالة الأولى لن يكون النص نصًا إلهيًا، لأن التأويل البشري عمل على أنسنة النص، وبذلك سوف يفقد قداسته بصورة تلقائية، فنحن الذين قررنا أن نفهم (الأعياد) على أنها أعياد الميلاد، أو العيدين المعلومين للمسلمين. وفي الحالة الثانية سوف يكون الأمر تحصيل حاصل، لأنه مقضي مُسبقاً، فهو قد شاء أن يفهم هؤلاء وألا يفهم هؤلاء، ونكون عندها أمام معضلة التسيير والتخيير وإشكاليتهما العويصة.

فلنفترض أننا على ثقة بأن الله أراد أن يترك لنا الاجتهاد في النص، فإذا قلنا أن النص B تمت صياغته في حقبة لم تعرف فيها البشرية سوى عيد واحد فقط، فإن تأويلنا للفظ [الأعياد] بصيغة الجمع يُعتبر صحيحًا، لأن هذا العيد بتكراره سنويًا، سيكون عبارة عن أعياد، وسنرى أنه من الحكمة الإلهية أنه لم يقل: "لا تخرجوا من بيوتكم في العيد" بصيغة المفرد. (هذا رد مُعلّب وجاهز)، فإذا جاءت حقبة تالية كثرت فيها الأعياد، فإن تأويلنا للفظ [الأعياد] يُعتبر صحيحًا أيضًا، لأنها ليست عيدًا واحدًا، والنص واضح [أعياد] بصيغة الجمع ودون تحديد عيد بعينه، وعندها يكون السؤال: "كيف بالإمكان أن يكون هنالك تأويلان مختلفان وصحيحان في ذات الوقت؟" ألا يدل ذلك على تأويلنا تجاوز النص؟ ماذا إذا كان مُراد المُشرّع ألا نخرج من بيوتنا إلا في العيد الواحد المعروف في وقت كتابة النص، وأنه إنما جمع كلمة عيد على أعياد فقط ليبين لنا أن الخروج مسموح به في كل موسم للعيد سنويًا؟ أفلا يكون ذلك تجاوزًا للنص بإضافة أعياد أخرى على العيد الذي قصده المُشرّع؟ عندها سيكون فعل الخروج من البيت في غير العيد المقصود خرقاً للتشريع ويستوجب، على ذلك، العقوبة، ولكن مهلًا، ألم يكن يعرف المُشرّع أن هذا الاختلاف في التأويل سوف يحدث؟ بالتأكيد يعرف، فهو المُطلق؛ إذا هل سيُعاقبنا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق