الجمعة، 15 أكتوبر 2010

مقاربات نحو مفهوم الإلحاد - 2

إن من أكثر الأمور عبثية هي مناقشة الشخص المتحفّز، بصرف النظر عن باعث هذا التحفيز سواء كان ناجماً عن خوف أو جهل أو أيّ باعث آخر؛ فالشخص المتحفّز هو شخص فاقد للمنطق والموضوعية لأنه لا يناقش إلا ليشعر بالرضا عن نفسه ذلك الشعور الذي يحتاجه ليدعم به قناعاته، وفي هذه الحالة فهو لا يحتاج إلى دعائم منطقية أو علمية بقدر ما يحتاج إلى "شعور" حتى وإن كان هذا الشعور غير مستند على حقائق بالضرورة، فعندما يخاف الإنسان من الظلام فإن خوفه هذا يجعله متحفزاً وهذا التحفز يجعله متقبلاً لتصديق التوهمات كسماعه لأصوات غريبة أو رؤيته لخيالات غير آدمية أو إحساسه بالمراقبة .. إلخ. وبحثاً عن الاطمئنان فإنه يلجأ إلى فعل أشياء غير منطقية ليتجاوز بها خوفه، فنجد أن بعضهم يبدأ بالغناء بصوتٍ عالٍ، أو يقرأ المعوذتين، أو يتدثر بغطائه هرباً من كل ذلك.

الخوف والجهل ليسا مناطان بخلفية الشخص الأيديولوجية أو العقدية، بل هما –أصلاً- ليسا سوى مُجرّد بواعث طبيعية Natural Motives قد يتحلى بهما المُلحد أو المؤمن على حدٍ سواء. فالمُلحد قد يكون جاهلاً بأبسط الحقائق العلمية التي يبني عليها افتراضاته حول عدم إمكانية وجود الله، وقد يتغاضى في نقاشاته حول الله بعض المسائل غير الحسيّة والتي لا تنفصل عن الحس، وبالتالي يبدأ برفض كل ما هو غير حسي على الإطلاق. وقد يكون منشأ إلحاد البعض هو خوفهم من التصديق بوجود الله أصلاً، فيكون هذا الخوف دافعاً لرفض فكرة وجوده، لأن فكرة عدم وجوده تهبهم راحة نفسية واطمئناناً هم بحاجة إليه لتبرير أفعالهم وسلوكهم.

وذات الأمر ينطبق على المؤمن، فالمؤمن قد يكون جاهلاً بالنظريات العلمية وتطوراتها، وما يستجد بها، أو يكون جاهلاً بحقائق علمية بسيطة غير مقنعة بالنسبة إليه، فيرفضها بالإجمال دون أن يُخضعها على عقله، لأن قناعته بأن الله موجود تكفل له وجود إجابات على كل التساؤلات التي يجهلها، وبالتالي فإنه يُلجأ عدم معرفته بالأشياء إلى قصور عقله. وقد يكون منبع رفض المؤمن لفكرة عدم وجود الله هي خوفه الشديد من فكرة وجوده. فإذا كان موجوداً فإن احتماليات دخوله الجحيم كبيرة إن حاول مجرّد محاولة أن يُفكّر في هذا الأمر على هذا النحو.

وهكذا نرى كيف أن الخوف والجهل يعملان على إفشال كافة المحاولات –حتى الجادة منها- لمناقشة فكرة وجود/عدم وجود الله. وإن لم نستطع أن نتجاوز هذه النقطة بالتحديد، فإنني أزعم بفشل هذه المحاولة قبل بدايتها. فدعونا لا نكن متحفزين لدى دخولنا في نقاش كهذا، لأنه يتطلب وعياً وقدرة على تجاوز المُقدّس للوصول إليه أو نفيه؛ لاسيما إذا عرفنا أن بعض المؤمنين ينطلقون في قناعاتهم عن وجود الله من منطلق إلحادي ينفيه، وأن بعض المُلحدين ينطلقون في قناعاتهم عن عدم وجود الله من منطلق إيماني ينفيه؛ وما ذلك إلا عن طريق الفرضية وليس العقدية.

لأن المُؤمن –في هذه الحالة- يفترض عدم وجود الله وأدلة ذلك ليبدأ في تفنيد هذه الأدلة ودحضها (بناءً على المحفز الرئيسي) ليصل في النهاية إلى ما يعتقد أنه حقيقة تُساعده في الحصول على الشعور بالرضا النفسي وأنه على حق فهو بذلك إنما يُبرر لقناعاته ليس أكثر. والمُلحد –في هذه الحالة- يفترض وجود الله وأدلة ذلك ليبدأ في تفنيد هذه الأدلة ودحضها (بناءً على المحفز الرئيسي) ليصل في النهاية إلى ما يعتقد أنه حقيقة تُساعده في الحصول على الشعور بالرضا النفسي وأنه على حق فهو بذلك –أيضاً- إنما يُبرر لقناعاته.

ولا أُنكر أنني أخطأت في بعض الأحيان بانجرافي وراء هذا النسق في بعض المحاورات، لاسيما في منبر سودانيزأولاين، مُخالفاً بذلك قناعاتي الشخصية عن الإلحاد ونظريته وأدواته، وربما كان ذلك بسبب رغبة الكثيرين دفع النقاش بهذه الطريقة لأنها تخصهم بشكل شخصي. أنا أؤمن بأن الإلحاد نسق فكري فلسفي لا يهتم بمناقشة الدين في المقام الأول، وإنما بمناقشة الإنسان وحُريته في التفكير والإبداع والتأمل، وفي حُريته لمعرفة الحقيقة دون أن يحوله عن ذلك حائل سواء كانت الحقيقة التي سوف يصل إليها هي اكتشاف عدم وجود الله أو الاعتراف بوجوده.

وعلى هذا فإنني أرى أن مفردة "مُؤمن" هي أقرب ما يكون اصطلاحياً لوصف "المُلحد"، فإذا كان الله هو موضوع الجدل بين المؤمنين والمُلحدين فإنه لا يجوز إطلاق نعت "مُلحد" على شخص ما بحيث تكون مقابلاً لإنكار وجود الله، أو أن نطلق نعت "مؤمن" على شخص ما بحيث يكون مقابلاً لمُثبتٍ وجود الله، قبل أن يتم التوصل إلى حقيقة وجوده أو عدم وجوده في الأصل.

أعني أنه إذا تجادل شخصان حول إمكانية وجود أو عدم وجود كائن مائي ذو شكلٍ ومواصفات مُحددة، فإنه من الخطأ أن نطلق على مُنكر وجود هذا الكائن أنه (مُنكر) أو نطلق على مُثبت وجوده أنه (مُثبت) لأنه إن كان الأمر مُثبتاً أو مُنكراً في الأصل لما نشأ الجدال من أساسه، إلا أن يكون الوصف مجازياً كقولنا (أحمر) لتعريف لونٍ ما بعينه وتمييزه عن بقية الألوان الأخرى، والحقيقة أنه ليس هنالك وجود للأحمر، بل هنالك وجود لما يوصف بأنه أحمر، والأمر هنا مشابه لذلك بصورة تقريبية.

كما يجب علينا مراعاة أمر آخر، وهو أنّ المُلحد ينطلق في إنكاره لوجود الله على نظريات علمية وقناعات منطقية (حتى وإن لم تكن صحيحة)، وأن المؤمن ينطلق في إثباته لوجود الله على نظريات أخلاقية وقناعات عقدية (حتى وإن لم تكن صحيحة)، وهذه مُشكلة حقيقة يجب التنبّه إليها، لأن محاولات المؤمن الاعتماد على العلم لإثبات وجود الله يضعه في موضع حرج جداً يُضطره إلى تشويه نصوصه المقدسة لإجبارها على موافقة النظريات العلمية وهو ما نراه فيما يُسمى بالإعجاز العلمي في القرآن، علماً بأن النظريات العلمية متغيّرة في الأصل، ومع الأخذ في عين الاعتبار أن المؤمن لم يحتج إلى هذا العلم ليقتنع بوجود الله أصلاً، فهو مقتنع به حتى قبل أن يخضعه للقوانين العلمية ونظرياتها وقياساتها، وهو الأمر الذي يُحرج المؤمن فعلاً بل ويُحرج صورة الله الذهنية بالمقابل.

والأمر ذاته ينطبق على المُلحد الذي يعتمد على النظريات الأخلاقية في إنكار وجود الله إنما يتناسى أنّ الدين يأتي في كثير من الأحيان متماشياً مع القيم الأخلاقية المُجتمعية وغير منفصل عنها، وأنه –أي الدين- امتداد طبيعي لإرث الثقافة الأخلاقية التي يولّدها المُجتمع، ويسعى بها إلى تنظيم شئون الأفراد والعلاقات. إن البوابتان الرئيسيتان لمناقشة فكرة وجود/عدم وجود الله كما أراه هما:
  • نشأة الكون
  • خلق الإنسان

وعندما أقول بذلك فإنني أفصل بين مسألة وجود الإنسان ونشأة الكون، لأن هذه النقطة بالتحديد تجعلنا في مواجهة مباشرة مع السؤال: "هل الإنسان خلق بإرادة أم بضرورة؟" أعني هل أنّ وجود الإنسان كان ضرورة حتمية كجزء من نشوء الكون نفسه كبقية الكائنات الحيّة وغير الحيّة، أم أنّ وجوده منفصل عن هذه الحتمية بإرادة مستقلة؟ أعود لأشرح السؤال بطريقة أبسط قليلاً فأقول: هل نشأ الكون وتضمنت نشأته وجود الإنسان كضرورة حتمية لمجموعة قوانين ساعدت في وجوده مثلما وُجدت بقية الكائنات والموجودات؟ أم أنّ هنالك إرادة كانت هي وراء وجوده؟

إنّ وجود الإنسان في الفهم الديني وجود مستقل بإرادة مستقلة ولكنها في الوقت ذاته غير منفصلة عن إرادة نشأة الكون، فالكون نشأ تمهيداً ليكون الإنسان، وهذا الأمر منطقي؛ حيث أنك لتصنع طائرة يجب أولاً أن تُوجد المواد الخام للتصنيع وأن تفرد مساحة مناسبة لحجم الطائرة التي تُريد تصنيعها.

ولكن الأمر لا يبدو بهذه البساطة على الإطلاق، لأن القول بوجود الضرورة ووجود الإرادة قول مفصلي للغاية، يجعلنا نتساءل عن نوع هذا الوجود نفسه، فهل الأشياء موجودة أم ممكنة الوجود؟ لا يُمك الإجابة على السؤال إلا إذا عرفنا أن الشيء الموجود هو الشيء الأزلي بمعنى أن لا يكون قد بدأ، ولا يعقل أن ينتهي، والشيء ممكن الوجود هو الشيء الآتي من العدم ثم وُجد. على هذا النحو يُصبح الوجود الضروري مُريحاً في التفكير من حيث أنّ القول بأن هنالك وجود إرادة يجعلنا نتساءل كذلك عن هذه الإرادة نفسها ما إذا كانت أزلية أم مخلوقة من عدم. الأمر مُعقد للغاية كما يبدو، ولكن يُفيدنا أن نناقش الأمور بشكلها البسيط، دون الخوض في تفاصيل مُربكة ومُشوّشة.

هنالك نقطتان أساسيتان تُعيقان مجرى ناقشنا عن أمر (وجود الإرادة) على اعتبار أن العلّة الأولى أزلية، وأنّ كل الموجودات ناشئة عنها –أيّ عن هذه العلّة- وبالتالي القول بإمكانية الوجود وليس وجودها أبداً. أولى هذه النقاط هي كينونة العلّة سابقة على الإرادة خارجاً عن الزمان والمكان لأن إرادة الوجود مرتبطة بالزمان والمكان بالضرورة، ومع انتفاء الزمان والمكان تنتفي إرادة العلّة الأولى إن لم تنتفي العلّة نفسها تبعاً لذلك. لأن وجود العلّة الأولى خارجاً عن الزمان والمكان ينزع عنها صفة العلّة ويُلبسها صفة الاعتلال.

أعني أنه إذا كان هنالك علّة خارج الزمان والمكان، فإن هذه العلّة لن تكون فاعلية بما يكفي للإرادة، وبالتالي فإنها لن تستطيع فعل شيء، ومن ذلك فإنه ينتفي عن هذه العلّة اتصافها بأيّ صفة قيمية أو أخلاقية، لأن الأخلاق مرتبطة بالزمان والمكان كذلك. فهل العلّة الأولى (مثلاً) كانت رحيمة قبل الزمان والمكان؟ وهل "الله" (العلّة الأولى عند المسلمين) كان –قبل الزمان والمكان- ليس كمثله شيء أم أنه اكتسب هذه الصفة بعد الخلق؟ النقطة الأساسية الثانية التي تعيق مجرى نقاش أمر وجود الإرادة هي منطقية هذه الإرادة نفسها، وهو السؤال الكبير المتعلق بالخلق نفسه: (لماذا خلق الله الكون والإنسان؟) باستعراض المفهوم الديني يُمكننا الإجابة على هذا السؤال كالآتي:
• خلق الله الإنسان لعبادته.
• خلق الله الكون لمساعدة الإنسان على معرفة الله عبر التفكر في مخلوقاته.

يُحبذ كثير من الدينيين أن يُشبّهوا عملية الخلق بعملية التصنيع، انطلاقاً من مبدأ حسي في المقام الأول: (كل موجود له مُوجد) وهو مبدأ السببية المعروف، رغم أنهم لا يحاولون تطبيق هذا المبدأ على "المُوجد" على اعتبار أن المُوجد لا يُمكن أن يخضع للقانون الذي صنعه بنفسه. وأنا أرى أن النقاش في مسألة وجود/عدم وجود الله يجب أن يُبنى على فرز المصطلحات في المقام الأول، فمصطلح "مخلوق" هو مصطلح ديني يعترف بوجود خالق بالضرورة، وعلى هذا فإنه يُصبح من العبث أن يتكلّم مُلحد عن المخلوق محاولاً نفي الخالق! وأرى أنه من الأرشد أن نستعيض به مصطلحاً آخر وهو (كائن) مع الأخذ في عين الاعتبار أن الكائن قد يكون حيّاً وقد يكون غير حي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق