السبت، 23 أكتوبر 2010

الحجاب والحرية الشخصية

[رؤية الدين للمرأة – مكانة المرأة في الأديان عبر التاريخ]
أولاً: الحجاب والحرية الشخصية
كثير من النساء اللواتي يتمسكن بحقهن في الحجاب، يعتبرن أن مسألة الحجاب داخلة ضمن حرية الفرد في اللباس واختيار اللباس، وهن بذلك يخلطن الأمر ويقلبنه رأساً على عقب، وسؤالي البسيط لهؤلاء النسوة "هل أنتن متمسكات بالحجاب لأنه أمر رباني؟ أم لأنه تعبير عن الحرية الشخصية؟" وعلى هؤلاء النسوة أن يعلمن -قبل التطوّع بالإجابة- أن الأمران لا يتساويان على الإطلاق، ولتوضيح الفكرة أضرب هذا المثال: إذا فرضت مدرسة ثانوية على طالباتها الالتزام بزيّ موحّد [Uniform] فهل ارتداء هذا الزيّ يدخل ضمن الحرية الشخصية في اللباس؟ من الواضح أن إلزام هذه المدرسة للطالبات بزيّ ما، هو ما يُنافي بالضرورة الحرية الشخصية للبس وليس العكس، وبالتالي فإن الحجاب [المفروض] على المسلمات يتنافى مع حريتهن الشخصية في اللباس، وإذا قالت إحداهن إنها مقتنعة بالحجاب وأنها ترتضيه، فإن هذه القناعة وهذا الرضا لا ينفي أنه زي مُلزم، والإلزام في حدّ ذاته مُنافٍ للحرية، هذا إضافة إلى أن هذه القناعة ليست أصيلة، وسوف أتناول فكرة الأصالة لاحقاً.

ثانياً: رؤية الدين للمرأة – مكانة المرأة في الأديان عبر التاريخ
إذا حاولنا تتبع وضع المرأة في المجتمعات البشرية منذ العصور البيوليتية [الأولى والوسيطة والحديثة] وكذلك في العصر النيوليتي الأول؛ فإننا نجد أن المرأة في هذه المجتمعات كانت أكثر احتراماً، إلى الدرجة التي جعل إنسان تلك العصور لا يتصوّر الإله إلا على صورة أنثوية، فكانت الديانات الأنثوية والآلهات الأنثوية، وكانت عشتار أو عشتروت [الإلهة الأم]، وكانت المرأة في تلك العصور ذات مكانة محترمة لأنها كانت تعبّر عن الحياة وعن سرها، وكانت هي مصدر الإلهام لكثير من المُنجزات البشرية القديمة، ثم مع اكتشاف الزراعة واستشراء الإقطاعية الكلاسيكية، وظهور الملكية الفردية بدأ الصراع بين الرجل والمرأة على السُلطة المجتمعية، وتمظهر هذا الصراع في شكل صراع الآلهات الذكورية والأنثوية والذي انتهى بفوز الآلهة الذكورية، وبالتالي فرض سيطرته على المرأة المهزومة؛ فرأينا ما يُعرف بالأديان السماوية كيف حاولت تشويه صورة المرأة عبر الأساطير والخرافات التي صنعتها من أجل التبرير لاضطهادها، وفيما يلي تناول سريع لوضع المرأة في الأديان السماوية.

المرأة في اليهودية:
المرأة في اليهودية ملعونة لأنها مصدر الخطيئة الأولى، وهي بذلك سبب كل الشرور التي يفعلها الرجل، كما أن المرأة في اليهودية لا يحق لها أن ترث، ولا تملك حق الطلاق أو حق المطالبة به حتى مع ثبوت زنا زوجها بأخرى، وعلى العكس من ذلك فالرجل في اليهودية يملك حق الطلاق حتى دون إبداء الأسباب وفي ذلك نقرأ في سفر التثنية ما يلي: {إذا أخذ رجل امرأة وتزوّج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست لأن ذلك رجس لدى الرب فلا تجلب خطية على الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيباً} ومن قراءتنا لهذا الإصحاح نفهم أن المرأة نجسة إن هي مات عنها زوجها أو طلقها رجل، كما يتضح من هذا الإصحاح أن المرأة لا تملك حق الزواج واختيار الزوج، كما أن المرأة إذا حاضت طردت من البيت فلا تعود إليه حتى تطهر، والمرأة في اليهودية أسوأ من الموت وأخطر، وذلك كما نقرأه في سفر الجامعة: {فوجد أمر من الموت المرأة التي هي شباك وقلبها إشراك}

المرأة في المسيحية:
وضع المرأة في المسيحية مستنسخ عن اليهودية ومستمد منها، فالمرأة لا يُسمح لها بالكلام في الكنيسة، وإذا أرادت أن تتعلّم شيئاً فإنه يتوجب عليها أن تسأل زوجها، فعلم المرأة مرتبط ومستمد من الرجل، كما أنه يُحرم على المرأة أن تتسلّط على الرجل في المسيحية وحجتهم في ذلك أن آدم جُبل [أي خلق] قبل حواء، والمرأة في المسيحية لا يحق لها الطلاق لأن طلاق المرأة يعني الزنا، كما أن الزواج من المطلقة يعادل الزنا كذلك، والمسيحية تفرض الحجاب على المرأة بل وتتشدد في هذا الفرض حتى أن من لا تلتزم بالحجاب فإنه يُحكم عليها بحلق شعر رأسها.

المرأة في الإسلام:
لا يختلف وضع المرأة في الإسلام عنه في اليهودية والمسيحية، والحقيقة أن التشريعات المتعلقة بالمرأة في هذه الديانات هي تشريعات تاريخية بمعنى أن اختلاف التشريعات ما هو إلا ضرورات فرضها التطوّر الحتمي للتاريخ في واقع هذه المجتمعات، ولكنها تبقي على الأصل القائل بأن الرجل هو الأصل والمرأة ما هي إلا تابع له، فالمرأة في الإسلام ترث ولكنها لا ترث بنفس مقدار ما يرثه الذكر ولكنها ترث النصف {للذكر مثل حظ الأنثيين} والمرأة في الإسلام غير مقبولة الشهادة إلا في البيوع، وشهادتها ناقصة في البيوع بحيث لا يعتد في شهادة البيوع إلا بشهادة رجلين فإن لم يتوفر فرجل وامرأتين والحجة في ذلك أن المرأة مخلوق نسيء {أن تظل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} وكأن النسيان صفة أصيلة في المرأة، والمرأة كائن نجس كذلك في الإسلام {ويسألونك عن المحيض قل هو (أذى) فلا تقربوا النساء في المحيض حتى (يطهرن)}، والمرأة متاع {فانكحوا (ما طاب) لكم من النساء} والمرأة مصدر للشؤم {لا شؤم إلا في ثلاث: البيت والفرس والمرأة} والمرأة ناقصة عقل ودين وإن اجتهدت: {النساء ناقصات عقل ودين} والمرأة -كالكلب الأسود والحمار- تبطل الصلاة [ينفي البعض صحة هذا الحديث] والإسلام يُبيح التعدد ويُبيح وطأ الإماء حتى دون عقد زواج، والزواج يُسمي عقد الزواج بعقد نكاح، كما يُبيح الإسلام الزواج بالقاصرات، وديّة المرأة نصف ديّة الرجل، في الإسلام يحق للرجل ضرب الزوجة للتأديب، والكلام عن مكانة المرأة في الإسلام يطول.

نأتي الآن لمناقشة موضوع الحجاب والحِكمة من مشروعيته، وحتى لا أُتهم بأنني أتجنى فسوف أعتمد في تقديم الحكمة من مشروعية الحجاب على مقولات الأئمة المسلمين أنفسهم، ويكون ردي مبنياً عليه؛ فقد جاء في موقع [صيد الفوائد] إجابة على سؤال عن الحجاب ما يلي:
"هذه الألبسة التي ترتديها المرأة المسلمة هي مظهر شرعي، تعبر عن الحقيقة العظيمة التي يجب أن تكون قائمة في حسها، في كيفية تعاملها مع جسدها ، حفظاً له وصيانة وحماية، وشعوراً بالكرامة، ورفعة مما يجعلها تأنف من تبذله وامتهانه. وفي إحساسها بكرامتها الإنسانية عند الله حيث صارت أهلاً للتشريف بالتكليف، فلا تنحطّ للمرتبة البهيمية، حيث تقصر الحياة على المعاني المادية الشهوانية.

فالحجاب إذاً برنامج شامل لحياة المرأة المسلمة، يحكم سائر تصرفاتها، وليس فقط غطاء تستر به بدنها، وإن كان هذا الستر للبدن جزءاً من الحجاب (...) فالحجاب معنى شامل يشمل الهيئة والخلق جميعاً؛ فالحجاب ستر وطهارة وعفة وإيمان، وحب الستر من أخلاق الأنبياء. وعقلاً: إن كل من يملك شيئاً غالياً كان أو رخيصا؛ فإن من حقه ألا يستعمله إلا هو أو من له حق فيه وهذه حرية شخصية، والمرأة تملك جمالها، وهي مخلوقة متعبدة لأوامر الله عز وجل، فلا يحق لأحد أن يستمتع بها ولو بالنظر إلا من أذن لها شرعاً بذلك كالزوج؛ فالحجاب إنما هو تعبير عن حرية المرأة في نفسها، وإعلان منها أنها ليست نهباً لكل أحد، ومن هنا تكون شخصية المسلمة المحجبة التي تقدر نفسها، لا التي تتبذل وتكون سلعة رخيصة لا قيمة لها." [انتهى الاقتباس]

والعلّة في اختياري لهذا المُقتبس هو اشتماله على كثير من الحجج التي يسوقها رجال الدين في التبرير لمشروعية تغطية المرأة لجسدها. وسوف يكون نقاشنا حول ما جاء في المقتبس أعلاه من أفكار، وإيضاح ما فيه من أكاذيب وتلفيقات، ومن ناحية مبدئية فإنني أقول إن الحجاب هو مفهوم جنسي اجتماعي في المقام الأول، وهذان المفهومان [المفهوم الجنسي والمفهوم الاجتماعي] مرتبطان ارتباطاً وثيقاً؛ فالاهتمام البالغ الذي توليه الأديان المُسماة بالأديان السماوية بجسد المرأة واعتباره عورة يجب تغطيته وحجبه عن الأنظار يُعبّر في حقيقته عن هاجس جنسي من ناحية، وعن نزوع لاعتبار المرأة ملكية فردية للرجل من ناحية أخرى.

وقبل أن أُسهب في تفصيل النقطتين الأخيرتين؛ فإنني أرى من واجبي سرد مقدمة تاريخية لفكرة الحجاب ونشوئه في الإسلام حتى يتضح للمسلمات حقيقة مشروعية الحجاب في أساسها. يقول القرآن في الآية [59] من سورة الأحزاب {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى يُعرفن فلا يُؤذين} من هذه الآية نقف على نقطتين أساسيتين: أولهما نزعة الملكية الطاغية في الآية، وثانيهما الحِكمة الأساسية من الحجاب؛ وفيما يلي تفصيل ما أجملناه:

نزعة الملكية في تشريع الحجاب:
الفكرة الأساسية في الآية هو فرض الحجاب، والصيغة التي تغلب على التشريع المفروض هو التعميم وليس التخصيص، فنقول مثلاً: [قل للنساء أن يُدنين عليهن من جلابيبهن] أو [قل للمسلمات أن يُدنين عليهن من جلابيبهن] هذه الصيغة هي الصيغة الافتراضية للتشريع التعميمي، ولكن تخصيص الخطاب بكاف الخطاب [أزواجك] و [بناتك] يُوحي بطغيان نزعة الملكية، وكأن الغرض من تشريع الحجاب مبني في أساسه من كون المرأة هي [زوجتك] وأن الفتيات هن [بناتك] وأن النساء هن [نساء المؤمنين]، وملاحظتنا لعبارة [نساء المؤمنين] وفارقها الدلالي من [المؤمنات] هو ما يُؤكد هذا الرأي. وعليه فإن فرض الحجاب نابع في أساسه من إحساس العربي بأن المرأة وجسدها شيء يخصه، بل هو ملكه، ومن أجل هذا فإنه يتوجب عليه هو أن يأمرهن بتغطيته، وإلا لكان الخطاب مباشراً للنساء، وقد وردت هذه الصيغة من قبل في قوله [يا نساء النبي لستن كأحد من النساء] والواقع أن كل التشريعات الخاصة بالنساء مُصاغة بطريقة غير مباشرة، والفعل [قل] في آية [قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن] تأتي بمعنى [مُر] من [أمَرَ] فيكون [قل] هنا بمعنى [مُرهن بذلك]، وأغلب الآيات التي تتعرض لأحكام متعلقة بالنساء لا يتم فيها مخاطبة النساء بصورة مباشرة فنقرأ مثلاً:
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} الآية.
{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} الآية
{ولا جناح عليكم فيما عرضتم من خطبة النساء} الآية
{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} الآية
{فانكحوا ما طاب لكم من النساء} الآية
{وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} الآية
{يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كُرهاً} الآية
{قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} الآية

والشواهد كثيرة، وقد نلاحظ أن المرأة في هذه الآيات تقع في الغالب في محل المفعول به، فلا يتم مخاطبتها فيما يتعلق بها، وربما هنالك شواهد قليلة ونادرة تمت فيها مخاطبة المرأة بشكل مباشر، ومن ذلك قوله:
{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} الآية
{والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً} الآية

ولنا أن نتصوّر نصاً قانونياً يتعلّق بالمظهر العام هذا نصّه: [تلتزم المرأة بلبس زيّ مُحتشم حفاظاً على المظهر العام] ونقارنه بهذا النص: [تُلزم المرأة بلبس زيّ محتس مُحتشم حفاظاً على المظهر العام] ونقف بعدها على دلالات الخطاب في كلٍ من الصيغتين، وهو بالتحديد ما أسعى إلى إثباته، فالنصوص الدينية تتعامل مع المرأة على أساس أنها مملوكة للرجل، وبالتالي فإنه يُخاطبها عبر مالكها.

الحكمة من الحجاب:
استناداً على الآية السابقة من سورة الأحزاب فإننا نقف على معنىً هام للغاية من الحكمة من مشروعية الحجاب، وهو يتمثل في قوله {ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذين} إذن بإمكاننا القول أن الحكمة من مشروعية الحجاب حسب النص الديني هو [تجنب الإيذاء]، وهنا يُفيدنا أن نطرح بعض المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع؛ فسورة الأحزاب من السور المدنية أيّ أنها نزلت بعد الهجرة وهنالك اختلاف بين أئمة المسلمين حول تعريف السور المكيّة وتفريقها من السور المدنية، ولكن دون الخوض في هذه التفاصيل فإننا نقول إن السورة المدنية هي السور التي نزلت بعد الهجرة، وهنا يجب أن نتوقف على أمر هام تحاول الخطاب الديني الموجّه أن يوهم به العامة، فكثير من المسلسلات الدينية والتاريخية التي تتناول السيرة النبوية تحاول إيهام المشاهد بأن الحجاب كان جزءاً أصيلاً من الدعوة والنبوة، وبالتالي فإنه يُجسّد لنا المرأة المُسلمة في الحقبة المكية [قبل الهجرة] مُحجبة ومرتدية لباساً أبيض اللون، علماً بأن تشريع الحجاب لم يصدر إلا في الحقبة المدنية، ومن المؤكد أن اللباس الأبيض الذي تختص به الشخصية الإسلامية في الدراما له مدلولاته، فكل شخصية مسلمة في الدراما ترتدي اللون الأبيض، وهذا نسق درامي موجّه لا أصل له إلا محاولة الإشارة أن البياض دلالة على الإيمان، والحقيقة أننا نجد لهذه الفكرة امتداداً في كثير من الدول الإسلامية حيث تلجأ المرأة المسلمة لارتداء اللباس الأبيض بعد إعلان الالتزام والحجاب، وكذلك فإن بعضاً من الملتزمين ورجال الدين قد يرتدون جلابيب بيضاء. والأسئلة التي تطرح نفسها الآن: [إذا كان اللون الأبيض هو لون إسلامي حقاً، فمن أين جاءت العباءة السوداء؟ ولماذا هذا التناقض في الألوان؟ وما هي دلالات هذا التناقض؟]

هذه التساؤلات متروكة للتداول الذهني المفتوح، فما يهمني هنا هو التحدث عن فكرة الحجاب التاريخية والتي جاءت نتيجة لظرف موضوعي للغاية، والحقيقة أن الحجاب شرّع لغرض عنصري وطبقي للغاية، فكان الغرض الحقيقي من الحجاب ليس الستر والعفة كما تتوهم كثير من المسلمات، وكما يحاول أئمة الدين أن يروّجوا له، بل كان الغرض الأساسي منه هو التفريق بين الإماء المملوكات والحرائر، وجاء هذا التشريع عندما كثرت الشكاوى من تعرّض النساء للتحرشات الجنسية من قبل بعض المسلمين [بعض كتب السيرة ترمي اليهود والمنافقين بهذه التهمة] فلما جيء ببعض المتحرشين اعترفوا بذلك غير أنهم تذرعوا بأنهم كانوا يظنون أنهن من الإماء فجاء التشريع بالحجاب تمايزاً بين الإماء والحرائر، وهذا هو الرأي الراجح لدى أئمة التفاسير؛ وهنا نتعرّض لبعض ما قيل في هذا الصدد من تفسير للآية [59] من سورة الأحزاب على هذا النحو:

"يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء (...) وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثني الليث حدثنا يونس بن يزيد قال وسألناه يعني الزهري هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال عليها الخمار إن كانت متزوجة وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات (...) وقوله " ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين " أي إذا فعلن ذلك عرفهن أنهن حرائر لسن بإماء ولا عواهر" [المصدر: تفسير ابن كثير]

"يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" جمع جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينا واحدة "ذلك أدنى" أقرب إلى "أن يعرفن" بأنهن حرائر "فلا يؤذين" بالتعرض لهن بخلاف الإماء فلا يغطين وجوههن فكان المنافقون يتعرضون لهن" [المصدر: تفسير الجلالين]

"القول في تأويل قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين , لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، , فكشفن شعورهن ووجوههن , ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن , لئلا يعرض لهن فاسق , إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول" [المصدر: تفسير الطبري]

"لما كانت عادة العربيات التبذل , وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء , وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن , وتشعب الفكرة فيهن , أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن , وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف - فيقع الفرق بينهن وبين الإماء , فتعرف الحرائر بسترهن , فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا . وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة , فتصيح به فيذهب , فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك" [المصدر: تفسير القرطبي]

إذن؛ فإن الحجاب كان نوعاً من الفصل والتمييز بين الحرائر والإماء ولا علاقة له بالعفة وصون المرأة وهذا الكلام، ومن المعروف أن هذه الآية مدنية أي نزلت في المدينة وإن كان الحجاب تشريعاً إسلامياً أصيلاً لفرض مع بداية نزول الوحي مثله مثل بقية الفرائض كالصلاة مثلاً، ولكن الواضح أن الحجاب والستر لم يكن مفروضاً على النساء في بداية الإسلام وظلت المسلمات متبرجات حتى بداية العهد المدني ولظروف مخصصة، ولولا هذه الظروف لما كان هنالك حجاب أصلاً.

والأدهى من ذلك ما نقرأه أن عمر بن الخطاب كان يضرب الأمة للبسها الحجاب لأنها بذلك تتشبّه بالحرائر وفي ذلك ورد عن أنس بن مالك: {رأى عمر أَمَةً لنا متقنِّعَة فضربها وقال لا تَشَبَّهِي بالحرائر} [المصدر: مصنف ابن أبي شيبة ج3 ص127] وذكر كذلك: {دَخَلَتْ على عمر بن الخطاب أَمَة قد كان يعرفها ببعض المهاجرين أو الأنصار وعليها جلباب متقنِّعة به فسألها: عَتِقْتِ؟.. قالت: لا .. قال: فما بالُ الجلباب ضعيهِ عن رأسكِ إنما الجلبابُ على الحرائر من نساء المؤمنين.. فتَلَكَّأتْ فقامَ إليها بالدُرَّة فضربها بها برأسِها حتى ألْقَتْهُ عن رأسِها} [نفس المصدر ص128] ويذكر أنس بن مالك كذلك: {كُنَّ إِمَاءُ عمر يَخْدُمْنَنَا كَاشِفَاتٍ عَنْ شُعُورِهِنَّ تَضْطرِبُ ثُدِيَّهُنَّ} [المصدر: السنن الكبرى للبيهقي ج2 ص321] إذن فلا علاقة للحجاب بالعفة ولا برفع قدر المرأة وسترها والحفاظ عليها كما يُردد البعض، ولكنه كان تشريعاً من أجل التفريق والتمييز بين الحرائر والإماء هذا كل ما في الأمر.

إن الفكرة الأساسية من الحجاب هو الإمعان في إقصائها واضطهادها، وذلك عبر إيهامها بأنها محض عورة، وأن الحجاب ما هو إلا تكريم لها، فأيّ تكريم قد تناله المرأة وهي محجوبة وممنوعة من الكشف عن هويتها؟ ثم كيف أجاز البعض خلق المقارنة الغبيّة بين [الحجاب] و [الرذيلة]؟ فما إن يتكلّم أحدهم عن الحجاب؛ حتى يُحيلك مباشرة إلى الكلام عن العفة والعفاف، وبذلك أصبح عدم الحجاب مقابلاً مباشراً للرذيلة والانحلال الأخلاقي، ولا أدري من أين جاء هؤلاء بهذه المقارنة؟ هل كل امرأة لا ترتدي الحجاب هي بالضرورة امرأة ساقطة وفاجرة؟ نعم؛ فهذا هو الفهم الذي يحاول أئمة المسلمين إيهام المرأة به، وهم في سبيل ذلك يضربون الأمثال على المجتمعات المنحلة وكيف أن المرأة منهوبة الجسد في تلك المجتمعات. هناك خلط واضح، فكلما تكلّمنا عن المرأة في الإسلام جاءت الأسطوانة المشروخة إياها [الانحلال في المجتمع الغربي] وأنا أستغرب هل [الغرب] ديانة نقارن بها الإسلام؟ ألا يعرف هؤلاء أن المسيحية توجب الحجاب على المرأة وكذلك اليهودية؟ ألا يعرفون أن ما يتم في الغرب من انحلال وغيره لا علاقة له بالدين، بل له علاقة مباشرة بمسألة الحريات؟ ما هو المكان السامي الذي وضع فيه الإسلام المرأة؟ وراء الحجاب؟ خلف الأنظار؟ بعيداً عن المشاركة الفاعلة في المجتمع؟ داخل أربع جدران؟ في عقول الرجال كسبب ومصدر للفتنة؟

لا أدري لماذا يسعى الكثيرون إلى اعتبار أن [الانحلال] هو المرادف الطبيعي لقضية تحرير المرأة ومساواتها بالرجل! وكأن كل من يدافع عن قضايا المرأة هو بالضرورة يدعو للانحلال، ولهذا يُجابه على الدوام بالأسطوانة المشروخة: الكلام عن العفة والشرف والانحلال في الغرب ووووو إلخ، فما الرابط؟ ألا يمكن أن تكون هنالك امرأة غير متحجبة وشريف في ذات الوقت؟ أم أن الحجاب أصبح رديفاً للعفة كغشاء البكارة؟ الأخلاق غير مقيّدة بالدين، بل الدين هو الذي يتقيّد بالأخلاق، وهذا يعني أن الأخلاق ليست حكراً على الإسلام دوناً عن بقية الأديان، بل وليست حكراً على الأديان نفسها. متى يفهم هؤلاء أن تحرير المرأة والمطالبة بمساواتها بالرجل تعني تكافؤ الفرص الاجتماعية والسياسية بينها وبين الرجل؛ بحيث لا يتم التمييز بين شخص وآخر بناءً على نوعه أو جنسه بل بناءً على أهليته ومؤهله؟ لماذا يخلط هؤلاء القوم بين [التحرير] و [التحرر]؟ هل هذا الخلط مقصود؟

ثم من قال لهؤلاء أن المرأة مسلوبة الإرادة إلى الحد الذي يجعلها عرضة للانحلال بمجرّد أن تخلع حجابها؟ لماذا يحاول أئمة الإسلام أن يُرهبوا المرأة، بأن يطعنوا في شرفها وعفتها إذا لم ترتدي الحجاب؟ ما هي علاقة الحجاب بالعفة والشرف؟ إن معيار العفة والشرف هو معيار ذكوري في مجتمعاتنا المريضة، والتي تعتقد أن جسد المرأة مِلك للرجل، يجب عليه حمايته والذود عنه، وكأن المرأة لا تملك أن تحميه، وحتى إن فعلت فإنها تفعل ذلك من أجل إرضاء الرجل، لا من أجل إرضاء نفسها، أو لأنها تتمتع بقدر كافٍ من الحرية والقرار بأن تكون كما تريد هي، لا كما يُريد الرجل.

من المؤسف حقاً أن تنطلي مثل هذه الحيل السخيفة على كثير من النساء، فترتدي الحجاب لتدافع به عن ممتلكات الرجل، وتحمي به مصالحه وتؤكد على سيادته عليها وعلى جسدها. لقد ذكرتُ في بداية هذا المقال أن الحجاب مفهوم جنسي واجتماعي، ومن واجبي أن أشرح هذه العبارة.

الحجاب من حيث هو مفهوم جنسي:
لقد أوضحنا كيف أن الغرض من الحجاب يرتكز في أساسه على إحساس ذكوري يجعل الرجل يشعر ملكيته لجسد المرأة، وبالتالي تغطيته لمن لا حق له في رؤيته والاستمتاع به، فيكون الرجل بذلك هو المعيار الذي يُحدد من يحق له الاستمتاع بجسد المرأة وليس المرأة نفسها، وهذا في حدّ ذاته امتهان للمرأة بحيث لا يُسمح لها حتى اتخاذ القرار بشان تحديد المعيار حسبما تراه هي، فهي وحتى إن توهمت أنها هي صاحبة القرار، فإنها دون أن تشعر إنما تنفذ ما أقرّه الرجل وما ارتضاه، فأصبحت فكرة عورة الجسد [هذه الفكرة الذكورية] فكرة تمارسها الكثير من النساء، وكثير من العادات والتقاليد التي تمارسها النساء هي إنما تصب في خانة المصلحة الذكورية، فهنالك عدد من الأعراق والشعوب التي تقوم بتسمين الفتاة قبل الزواج، لأن ذكور ذلك المجتمع يحبون الفتاة المكتنزة، وتمارس المرأة الرقص أمام زوجها تماماً كما كانت تفعل الجواري، ويتم تدريب الفتيات على الرقص من أجل إمتاع الزوج، وختان الإناث ما هو إلا ممارسة نسائية ذات مغزى ذكوري، ويأتي الحجاب ليصب في نفس الخانة.

كما أننا نفهم كذلك تغطية الجسد على أنه إمعان في الاشتياق إليه، وذلك من منطلق أن كل ممنوع مرغوب، فكلما توفر الجسد كانت الرغبة فيه أقل، فتأتي هذه التغطية لتعتني بهذه الرغبة، لأن الرجل سوف يكون مشتاقاً ومتلهفاً لهذا الجسد طالما أنه عصي عليه، وهنالك قبائل أفريقية تمارس عادة قريبة [مفاهيمياً] من الحجاب، فعندما زواج الرجل بامرأة فإنهم يقومون باختطاف العروس وإخفائها عن زوجها لمدة تتراوح من يومين إلى أسبوع، ليشتاق إليها وليكون متلهفاً لممارسة الجنس معها، فيكون إخفاؤها هذا دافعاً له أن يظل متوقداً وفي حالة اشتياق ورغبة. وربما كانت بعض الطقوس التي تمارسها كثير من الشعوب العربية اليوم ذات مغزى مشابه لذلك، فالعروس ليلة زفافها يتم تغطيها بثوب الزفاف، ويُسدل على وجهها وشاح أبيض يقوم العريس برفعه وكشف وجهها بعد إعلانات تمام إجراءات عقد الزواج، وكذلك كثير من القبائل والشعوب العربية تتجه نحو حجب العروس عن العريس قبل ليلة الزفاف أو قبل ليلة الدخلة، لأن حجبها عن يزيد من حماسته واشتياقه لها، ويأتي الحجاب ليُطبّق ذات النظرية المفاهيمية، وسواء علمت المرأة بذلك أم لا فهو لا يخدم الحرية الشخصية للمرأة كما تعتقد، بل تخدم النسق الذي تتبعه العقلية الذكورية، فدائماً الرجل هو المعيار حتى في مفهوم الحجاب نفسه، ويكون الحجاب كبقية الممارسات التي تدور في فلك الجنس، فالحجاب على ذلك ما هو إلا رمزية جنسية بجدارة، وقد نجحت العقلية الذكورية في إخفاء هذه الرمزية وطلائها بصبغة دينية نصوصية مقدسة، كما نجحت هذه العقلية في ممارسة إسقاطها على المرأة، وإيهامها أنها جسد من الممكن أن يتسبب في الفتنة ومن الممكن أن يكون مقياساً للعفة والشرف، والحقيقة بعيدة كل البُعد عن ذلك، فلو لم تتفاقم مشكلات التحرّش الجنسي زمن الصحابة لما تم تشريع الحجاب أصلاً.

الحجاب من حيث هو مفهوم اجتماعي:
فقط يُمكننا طرح تساؤل عريض وعميق يقول: [هل كانت المرأة الجاهلية منحلة أخلاقياً؟] من المعلوم موقف العرب القديم من المرأة، وهذه المعرفة تجعلنا نرفض فكرة كون المرأة الجاهلية منحلة على الإطلاق، فعلى الدوام كانت المرأة مصدر قلق بالنسبة للشخصية والعقلية العربية لقد عرفت العرب الدعارة ومارستها عدد من النساء وما الرايات الحمراء على البيوت إلا دليل على ذلك، ولكن ما حاجة المجتمع إلى الدعارة إذا كان المجتمع منحلاً؟ إن مفهوم الحجاب متغيّر بتغيّر المجتمع نفسه، ومن الخطأ أن يتم ربطه بمسألة العفة لأنه لا علاقة له بالأمر، فالحجاب مفهوم اجتماعي كان سائداً حتى في زمن الجاهلية، ولكن مفهوم الحجاب الإسلامي جاء ووضع مُحددات لشكل الحجاب ومواصفاته، حتى أصبح عصيّاً علينا أن نتخيّل صورة الحجاب على غير ما تم التوافق عليه في الفهم الديني الإسلامي؛ ولأن العرب قبل الإسلام كانوا يعرفون الفارق بين التحرير والتحرر، فكانوا لا يربطون العفة باللباس أصلاً، وبالتالي فإن كشف المرأة لشعرها أو ذراعها لم يكن أمارة لتحررها أو انحلالها، وحتى نوضح المفهوم الاجتماعي للحجاب فلنفترض أن حكمة الحجاب فعلاً هو العفة ودرء الفتنة؛ فما بال المرأة غير العربية تلزم بالحجاب عندما تدخل الإسلام؟ إذا عرفنا أن مجتمع هذه المرأة [غير العربية] لا يعتبر كشف الرأس فتنة أو إغراءاً فلماذا يجب أن تلتزم بالحجاب حتى مع توفر أسباب الحكمة من تشريعه؟ إن المجتمع الأوربي [مثلاً] لا يرعى في كشف الساق أيّ فتنة أو إغراء، ولا يرى في كشف الرأس شيئاً يوحي بالإغراء، وكذلك لبس البنطال وخلافه، بل وحتى أن الملابس الضيقة والقصيرة قد لا تكون جاذبة لانتباه الرجل الأوربي؛ فلماذا يجب على المرأة الأوربية إذا دخلت الإسلام أن ترتدي الحجاب؟

ثم إذا كانت الحكمة من الحجاب هو درء الفتنة، فهل يُمكننا القول إن النساء الأقل حظاً من الجمال يجوز لهن عدم ارتداء الحجاب لأن وجوههن القبيحة لا تغري الرجال ولا تفتنهم؟ إذا قال المسلمون [لا] فإن الواقع المتحصّل عليه هو أن الحجاب حُكم عام على جنس النساء وهو ما يدلنا على أن المستهدف بذلك هن النساء باعتبارهن [نوعاً - جندراً] وهو ما أحاول الوصول إليه، فالحجاب تمييز عنصري وجندري واضح ضد المرأة، بدواعي ومسوغات دينية لا يُمكن الاتفاق عليها بالإطلاق.

إن المرأة معرضة للاضطهاد والإهانة، ولا يُمكنها مع ذلك المطالبة بالعدالة لأنها هي نفسها لا ترى فيما يُمارس عليها أيّ اضطهاد، بل وتراه عدالة كاملة؛ لماذا؟ لأن مُشرّع هذه السلوكيات الاضطهادية أقنعها أن هذا الأمر هو أمر رباني فوقي لا يُمكن الاعتراض عليه؛ فهي بذلك لا ترى في ضرب الرجل لها للتأديب إهانة تذكر، فطالما أن الله أمر الرجل بذلك وأباحه له، فلا اعتراض على حكم الله، فهو العالم بخلقه أكثر منهم، وإذا وصف الله النساء بأنهن ناقصات عقل ودين لم يرين في ذلك أيّ غضاضة، وإذا وصفهن بأنهن مصدر شؤم لم تستطع إحداهن الاعتراض أو حتى مجرّد الإحساس بالمهانة، وإذا فضل الله الرجل عليها دون سبب يُذكر {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} [النساء:34] فإنه لم يجز لها السؤال عن [لماذا يُفضل الله الرجل عليّ؟] لأن الله نفسه لا يسمح لها بهذا الاعتراض {ولا تتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض} [النساء:32] فلا يحق لها أن تسأل عن سر انحياز الله للرجل لأن الله لا يُمكن أن يُسأل عمّا يفعل. ولا يُمكن للمرأة أن تسأل عن سُلطة الرجل عليها وعلى جسدها، لأنه قضى ذلك سلفاً {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها} وقد نلاحظ أن الخطاب هنا هو للذكور [خلق لكم – أيها الرجال] ولماذا خلق النساء؟ [لتسكنوا إليها] وهو ما قد توضحه آية أخرى {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} فإن الأصل في الميثيولوجيا الدينية هو الذكر ثم جاءت المرأة لتسلي الرجل، فكانت منه أو بالأصح بعضاً منه، فهي على ذلك دائماً أقل من الرجل لأن الأصل والفرع لا يتساويان.

هكذا يستغل الرجل فكرة الله ليضطهد المرأة وليقمعها، ولو كان الله رجلاً لقتلته النساء حتى يحصلن على كرامتهن وإنسانيتهن، وليكن أحراراً في أجسادهن، وليكن هن [بإرادتهن] من يضعن معيار العفة والشرف، لا الرجل. فالرجل هو من حدد غشاء البكارة معياراً للعفة، والرجل هو من حدد الحجاب معياراً للعفة والشرف، وهو من أوهم المرأة بأنها عورة وأنه يجب عليها تغطيته وإخفاؤه، وإذا ما سحبت غطاء المرأة عنها فجأة فإنها بلا شك سوف تشعر بالتعرّي لأنها مقتنعة بأن جسدها عورة، فمن المسئول عن هذه القناعة السخيفة؟ ومن المسئول عن هذا الفهم الخاطئ للحرية؟ ومن المسئول عن الفهم الخاطئ لتحرير المرأة ومساواتها مع الرجل؟ ومن المسئول عن الفهم الخاطئ للجنس؟ هل الله أم الرجل؟ إن الإجابة الحقيقة على هذه الأسئلة هي [الرجل]، فلتقتل النساء الله القابع في أذهان الرجال وعلى أعضائهم الذكرية، فليقتلوه لأنه المتسبب في كونهن كائنات من الدرجة الثانية، ولأنه السبب في حيائهن من أجسادهن منذ ولادتهن وحتى مماتهن، ليقتلوه لأنه ليس سوى ما يعتمل في عقول هؤلاء الذكور ويتكلّم على لسانهم.

الاثنين، 18 أكتوبر 2010

دفاعاً عن نظرية التطور

كتب الدكتور حامد إسحق خوجه مقالاً مطولاً بعنوان (حقيقة نظرية التطور) وهو مقال منشور في عدد كبير من المواقع الإلكترونية، قدم فيه انتقاداته لنظرية التطور، والحقيقة أن ما قدمه الدكتور خوجه لا يُمكن اعتبارها انتقادات علمية، وإنما هي من قبيل الهجوم، معتمدًا في ذلك على استغلال العاطفة الدينية لدى الجمهور، وفي هذا المقال سوف أحاول تفنيد ما جاء في مقال دكتور خوجه، محاولاً إزالة الغبار الذي خلفه على هذه النظرية العظيمة.

المستوى الأول: تفنيد شرحه لنظرية التطور
المقال يعج بالأخطاء والمُغالطات العلمية، ودعني أبدأ معكَ أولاً من مزعم صاحب المقال المجهول والذي نسب إلى داروين قوله: "إن تزاوجاً بين زنجي وغوريلا قد يكشف لنا سر الحلقة المفقودة." بالتأكيد هذا الكلام غير علمي وغير صحيح، ولم يرد لا في نظرية داروين ولا في أيّ مجلة علمية على الإطلاق، لسببين بسيطين جداً أولهما أنه حتى وإن حدث مثل هذا التزاوج فإنه لن يؤدي إلى النتيجة المطلوبة، لأن معرفة الحلقة المفقودة تكون بالرجوع إلى الوراء حيث الأسلاف المنقرضة، وليس بإنتاج أنواع مُهجنة جديدة، فنتاج تزاوج الزنجي والغوريلا [إذا نتج عنه ناتج أصلاً] قد يؤدي إلى إنتاج نوع جديد يُضاف إلى سلسلة التطوّر ويزيد الأمر تعقيداً، ولن يكشف عن الحلقة المفقودة التي كان داروين يبحث عنها. ومن ناحية أخرى، فإن الشمبانزي هي المُرشح الأكبر من بين القرود الحالية في علاقة الصلة والقرابة مع الإنسان وليس الغوريلا. وهكذا فإننا نكتشف كذب هذا الشخص وتلفيقه، بنسبته كلاماً غير علمياً إلى داروين حتى دون أن يُشير إلى مصدر هذا الإدعاء.

الأمر الآخر الذي كذبَ فيه المصدر هو زعمه بأن نظرية التطوّر تم تدريسها في عدد من المعاهد العلمية في العالم الإسلامي، وهذا لم يحدث على الإطلاق. نظرية التطوّر لم تدرّس في الجامعات الأوربية والغربية عموماً إلا منذ فترة قريبة، وكانت النظرية مرفوضة وقتها، لنتائجها المتعارضة مع العقيدة المسيحية، فما بالكَ بالجامعات العربية والإسلامية والتي تعتبر أكثر تخلفاً بمراحل شاسعة من الجامعات الأمريكية والأوربية؟ أنتَ تعلم أننا ومنذ حقب وسنوات طويلة نشكو من تدهور المناهج التعليمية، ومن تدني الاهتمام بمسألة البحوث العلمية وحريتها، وكانت تلك إحدى القضايا الشائكة في عالمنا العربي، وقد تناول الدكتور أحمد زويل هذه المسألة في إحدى المحاضرات التي ألقاها، وطالب الحكومات العربية بإتاحة فرص وحريات أكبر للبحوث العلمية، ولكن لا حياة لمن تنادي.

يقع كاتب المقال المجهول في ذات الخطأ الشائع الذي يقع فيه عامة الناس ممن لا يُحيطون بنظرية التطوّر علماً، ألا وهو إدعاؤه بأن نظرية التطوّر تقول بأن أصل الإنسان قرد، وهو ما يُنافي الحقيقة، ولقد أوضحتُ أكثر من مرّة أن هذا الكلام غير صحيح على الإطلاق، وعارٍ من الصحة، فالنظرية لا تقول ذلك، بل تقول: إن بين الإنسان والقرد سَلف مُشترك، بل وتقوم النظرية بتحديد فصيل واحد من بين نوع القرود، فالإنسان لا يشترك مع جميع القرود "جُملةً" في سلف واحد، بل مع الشمبانزي بالتحديد، ورغم ذلك نراه يقول: "وقد ظن الكثيرون أن محور الخلاف فى النظرية هو ادعاؤها بأن الانسان يعود أصله الى القرود، ومع أن هذه نقطة جوهرية فى النظرية الا أنها ليست كل ما تشمله وتدعيه" فهو يدعي بأن هذه المعلومة الخاطئة "نقطة جوهرية" في النظرية، وهو ما يجعلنا منذ البداية نشكك في إلمام هذا الكاتب بالنظرية، وحقيقة دوافعه في الكتابة عنها.

الكذبة الثانية التي إدعائها كاتب المقال المجهول هو الزعم بأن أحد المحاور الأساسية في نظرية التطوّر هو بدء الحياة على الأرض [وأسهب في هذه النقطة]، والحقيقة أن نظرية التطوّر لا تعنى كثيراً بمناقشة أو تفسير بدء الحياة على كوكب الأرض، فهذه واحدة من اهتمامات نظرية الأبيوجنيسيس أو نظرية "التخلّق البايولوجي" فهي التي تحاول تفسير نشوء الحياة الأولى على الأرض وكيف وُجدت الحياة منذ البداية، وكل ما تناوله الكاتب حول ذلك منقول عن تلك النظرية؛ أما نظرية التطوّر فهي تركز على موضوع التنوّع في الكائنات الحيّة، وهو بذلك [أي الكاتب] يخلط –كغيره من عامة الناس- بين النظريتين، ولقد تناولتُ هذا الأمر في أكثر من مداخلة سابقة. ففي حين يدعي هذا الكاتب أن نظرية التطور تقوم على محورين هما [بداية الحياة] و [الجنس البشري] فإن حقيقة النظرية تقوم على محورين فعلاً، هما: [التطوّر] و [الانتخاب الطبيعي] والتطوّر ليس بمعناه التعقيدي؛ وإنما التطوّر بمعنى اكتساب الكائنات الحيّة لمميزات تساعدها على البقاء. تلك هي "أساسيات" نظرية التطوّر الأولية، ولكَ أن تتساءل: إذا كان كاتب المقال، يجهل أساسيات النظرية، فكيف له أن يُقدم لها نقداً علمياً؟

واحدة من أبشع أكاذيب كاتب المقال هو تحريفه لعنوان كتاب تشارلز داروين والذي ترجمه إلى [أصل الخلائق] والحقيقة أن اسم الكتاب الحقيقي هو [أصل الأنواع] وبالإنكليزية [the Origin of Species] وهي تدل على عدم أمانة في النقل والترجمة؛ وإذا قام أحدهم بترجمة كتاب بعنوان [Is Mohammad was a Prophet] إلى [هل كان سيدنا محمد نبياً] فإنه يتضح لكَ منذ البداية أن الترجمة لن تكون أمينة أبداً، لأن إضافة كلمة "سيدنا" تشي بتحيّز يتنافى مع المنهج العلمي الرصين في النقل والترجمة، ولو أنه ترجمها إلى [أصل الأصناف] لكان مقبولاً، لولا أن كتاب داروين هذا أشهر من أن يُخطئ الكاتب في اسمه. ولا يغيبُ عليك أن مُصطلح [خلائق] وهي جمع كلمة [خلق] تنافي أصلاً مفهوم التطوّر الذي يدحض في نهاياتها مفهوم "الخلق المستقل". كما أنه يزعم أن "مُجمل" النظرية "يقوم" على أن الوجود قام بدون خالق، والحقيقة أن هذا هو "نتيجة" النظرية النهائية، والتي أذهلت داروين عندما توصل إليها وجعلته يتردد في نشرها في البداية، والفرق بين القاعدة والنتيجة واضح، فالنظرية لا تقوم على دحض فكرة الخلق، بل تؤدي إلى الوصول إلى هذه النتيجة.

الأمر الآخر فإن الكاتب المجهول بدا مُتأثراً بما يُشاع عن النظرية وتأصيلها لفكرة العنصرية، ليس بتفنيد علمي على الإطلاق، بل هو في سبيل ذلك ينفي ما يقوله علماء نظرية التطوّر أنفسهم؛ أيّ أن الأمر عنده لا يُؤخذ من مصادره، بل هي فقط سير على موجة الرفض العام للنظرية وحسب. فهل –مثلاً- إذا جاء قس مسيحي وادعى أن الإسلام يُبيح الكذب واستشهد في ذلك بأدلة من كُتب الحديث أباح فيها محمد الكذب في ثلاث مواضع: (1) الحرب (2) إصلاح ذات البين (3) الاضطرار والإكراه ، وقام شيوخ الإسلام بنفي "إطلاق" إباحة الكذب في الإسلام وأظهروا حديث محمد الذي يقول فيه بأن المسلم قد يزني وقد يسرق ولكنه لا يكذب. وقام القس وقال: "خلافاً لما يُروّج له شيوخ وأئمة الإسلام فإن الإسلام يُبيح الكذب" فهل يكون لكلامه معنىً لديك؟ الحقيقة أن النقل الوحيد الذي يجب أن نعتمد عليه بموثوقية هو النقل عن المصدر، فإن علماء الإسلام والمسلمين أعلم بالإسلام من غير المسلمين، وكذلك فإن علماء نظرية التطوّر أعلم بهذا الرجل فيما يخص النظرية، وهو لا يُنكر ذلك فقط على أنصار التطورية، بل وعلى علماء الأحياء الطبيعية في المُجمل، وبذلكَ فإن أيّ عالم أحياء [سواء أكان تطورياً أم غير ذلك] فإن كلامه غير مُعتد به لديه، وعليه فإنه يتوجب على المُسلم أن يترك فوراً ما يقوله هؤلاء العلماء ولا يقرأه إلا من باب أنهم يحاولون الإنكار والتلفيق، ويكون كان هذا الكاتب هو المُعتمد؛ فهل هذا كلام قد يُصدّقه إنسان؟

أضف إلى ذلك أنه ينكر جملة وتفصيلاً الأساس الذي قامت عليه النظرية، من حيث أنها قامت في الأصل على دراسة النباتات والحيوانات وليس الإنسان. والحقيقة التي يعرفها الجميع أن منابع نظرية التطوّر بدأت بالرحلة المشهور التي قام بها داروين إلى "أرض النار" لدراسة أنواع من الطيور، دون أن ننسى أن داروين في الأصل [عالم حيوان] وملاحظاته المذهلة حول التنوّع الهائل في الطيور هي التي جعلت النظرية تتوسّع لتشمل أنواعاً أخرى من الكائنات ومنها الإنسان، وهكذا يظهر لنا الكذب الفاضح لهذا الكاتب المجهول.

كما أن كلام هذا الكاتب يحتوي على مُغالطات كبيرة فهو يدعي أن داروين "ركّز" على تفوق الجنس الأوربي على غيره من الأجناس البشرية. وهذه مُغالطة لم يسق لها الكاتب أيّ دليل إلا اعتقاداته الشخصية والمشهورة كحجة راسخة في دحض النظرية وتشويهها، وهو ما نحن هنا بصدده في هذا البوست، ولقد حاولتُ أن أوضحَ من قبل أن نظرية التطوّر كنظرية علمية لا تهتم بهذا الأمر بتاتاً، بل وإننا لو حاولنا فهم النظرية فإنها بطريقة ما تعلي من الأصل الأفريقي الذي يُعتقد أنه أصل الإنسان المُعاصر، على خلاف ما يحاول هذا الكاتب –وغيره- الترويج له فقط من أجل دغدغة مشاعر الناس، وتنفيرهم من النظرية.

كما أنه يكذب –أيضاً- حول ميل النظرية واستهدافها إلى إثبات التفوق الكبير لليهود، دون أن نفهم ما إذا كانت النظرية تهدف لإعلاء الجنس الأوربي أم الجنس اليهودي، فكلا النتيجتين متناقضتين؛ فإذا كان هدف النظرية هو إعلاء جنس اليهود، فهذا بالمقابل يُسقط عنها أنها تحاول الإعلاء من الجنس الأوربي، فاليهود يعتبرون أنفسهم العرق الأنقى من بين أجناس العالم، بمن فيهم العرق الأوربي أصلاً، وربما تعلم الأصول العرقية لليهود والتي لا علاقة لها بالجنس الأوربي وإنسانه؛ فأيّ الكذبتين نصدق؟

إن هذه الكذبة قائمة أصلاً اعتماداً على معلومة خاطئة متعلقة بأصول داروين الدينية؛ إذ يعتقد البعض أنه من أصل يهودي، وإذا عرفنا أنه ليس من أصول يهودية بل من أصول مسيحية فإن كل ما يلي هذا الإدعاء يسقط تماماً، لأن ما بُني على باطل فهو باطل؛ أليس كذلك؟ لقد اشتمل المقال على العديد من المُغالطات والتي تم تداول بعضها في هذا البوست، ومنها سعي النظرية إلى إيجاد مُبررات للغربيين لاستعمارهم لبلدان الشعوب الأخرى وإبادتهم واسترقاقهم، ولقد حاولتُ الإجابة على هذا الأمر سابقاً، فمن غير المقبول [لا منطقاً ولا عقلاً] التصديق بأن يكون غرض نظرية "علمية" تقوم أصلاً لتبرير مثل هذا الفعل.

ثم يُضيف الكاتب أمراً غريباً لمُجمل نتائجه عن النظرية؛ إذ يرى أن نظرية التطوّر هي الأساس في الإباحية الجنسية الحديثة، والشذوذ الجنسي والغناء والرقص والتمثيل والعشق، ولا أعرف كيف ذلك على وجه التحديد، فهو -كما يبدو- كلام غير علمي وغير صحيح، ولا يعدو كونه مُجرّد خطرفة الغرض منها حشد أكبر عدد من الاتهامات الأخلاقية للنظرية في سبيل تنفير الناس منها، بحيث يستحيل على المُسلم أن يطلع [مُجرّد اطلاع] على النظرية إذا كانت تحمل كل هذه الشرور والآثام والموبقات. ومن المُضحك أيضاً أنه يدعي أن نظرية التطوّر كان الأساس الذي اعتمد عليه ماركس في إنشاء الفكر الشيوعي، وأيضاً لم أستطع فهم الرابط بين نظرية التطوّر وبين الفكر الشيوعي!

المستوى الثاني: تفنيد نقده لنظرية التطور
أولاً: يبدأ الكاتب نقده للنظرية بسرد فكرة خاطئة تماماً، فيقول: "منذ أن قام داروين بوضع نظريته الإلحادية" وهذا الكلام غريب في الحقيقة، فنظرية التطوّر نظرية ذات نتائج إلحادية وليس نظرية إلحادية. وفقط لتبيان الأمر فإن تسمية النظرية بنظرية إلحادية فإنه تفترض قيام النظرية على فرضيات إلحادية، وهذا غير متوافر في نظرية التطوّر، ولكن مما لاشكَ فيه أن نظرية التطوّر، تحمل نتائج إلحادية بالتأكيد، فكان الأدق أن يقول "نظريته ذات النتائج الإلحادية". ولكن مهلاً هل بإمكاننا رفض النظرية العلمية لأنها تحتوي على نتائج إلحادية؟ إذا كان هذا الأمر صحيحاً فإن علينا أن ننسف نظرية النسبية لأنشتاين أولاً، وقبل ذلك أن ننسف نظرية ميكانيكا الكم، لأنهما تحتويان –أيضاً- على نتائج إلحادية ، بصورة أكبر مما تحملها نظرية التطوّر. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا: إذا كانت أكبر النظريات العلمية تقود إلى الإلحاد، أفلا يجعلنا هذا نعيد التفكير بشأن معتقداتنا الدينية؟

ثانياً: يدعي الكاتب أن عدداً مُقدراً من العلماء الأوربيين تصدوا لنظرية التطوّر ودحضوها، ولولا ماكينة الإعلام اليهودية لما تمكنت النظرية من النهوض مُجدداً. هذا الكلام يوضح خبث مطيّة الكاتب، لأن النظرية رفضت فعلاً من قبل العديد من العلماء، ولكن ترى ما هي اعتراضاتهم الأساسية على النظرية؟ وهل لم يقم أنصار النظرية بالرد على هذه الاعتراضات وتفنيدها؟ ثم إنني أتساءل: ما الذي يدفع اليهود للدفاع عن نظرية "إلحادية"؟ وما الذي يدفع الأوربيين لمحاربة نظرية تبرر استعمارهم للشعوب وإبادتهم لهم واسترقاقهم للعبيد؟ أليستَ هذه النظرية قائمة في أساسها من أجل التبرير لهذه البشاعات الأوربية [حسب زعم الكاتب]؟ فلماذا يُحاربونها إذن؟ ولماذا يُحاربونها وهي قائمة أصلاً للانتصار للعرق الأوربي [حسب زعم الكاتب]؟

ثالثاً: يقول الكاتب أن هنالك استحالة في تكوين جزيء البروتين، ويُعزز كلامه ذلك بكلام نسبه إلى العالم السويسري تشارلز جاي الذي يقول إن فرص تكوين جزيء برويتيني واحد هي [1/16010] وتطلب هذه الصدفة [24310] سنة لحدوثه. حسناً .. أرد على هذه الحجة فأقول:
1) نظرية التطوّر لا تتعرّض أبداً لمسألة نشوء الخلية الحيّة الأولى، هذا الأمر من اختصاص نظرية الأبيوجنيسيس أو "التخلّق البايولوجي"، فله أن يُقدّم لهم هذا الاعتراض وليس لنظرية التطوّر.


2) الكاتب المجهول جاهل بعلم الإحصاء ويرمي بجهله هذا على تشارلز جاي. فيقول باستحالة تكوين الجزيء البروتيني، ثم يُضيف أن هنالك احتمالاً قدره [1/16010] وهو لا يعلم أن هذا القدر من الاحتمال كافٍ جداً لانعدام الاستحالة. فعندما أقول لكَ: إجراء العملية به خطورة كبيرة على حياتكَ، ونسبة نجاحها 1/100 فهذا لا يعني أبداً أن نجاح العملية أمر مُستحيل. ثم إنه لا يكون أيّ وجود للاحتمالات في حال حدوث الأمر فعلاً.


3) يقول كذلك إن حدوث الأمر يتطلب [24310] سنة، والنظريات العلمية والأباحث الجيولوجية تقول إن أول ظهور للحياة على الأرض كان قبل [4] مليارات سنة، أي أكثر بكثير من عدد السنوات التي افترضها الكاتب على لسان العالم السويسري، وبالتالي فإنه بإمكاننا القول [إذا صحّت هذه المزاعم أصلاً] أنه كان بالإمكان حدوث ذلك فعلاً، ولا أدري إن كانت عدد السنوات الافتراضية هذا مستحيل التحقق أيضاً بالنسبة لديه أم ماذا؟


4) في تجربة يوري-ميلر الشهيرة تمكن هذا العالمان فعلياً في عام 1953م من إنتاج بعض الأحماض الأمينية التي تدخل في تكوين الخلية الحيّة، وفي كل مرّة كانت تتم فيه إعادة التجربة كانا يتمكنان من إنتاج أحماض أمينية جديدة حتى بلغت 27 حمضاً أمينياً. وبإمكانك الرجوع إلى مقطع الفيديو الوارد في الصفحة الأولى حول [شرح نظرية الأبيوجنيسيس] لتقف على شرح لتجربة يوري وميلر المُدهشة، لتعلم أنه تم كسر حاجز الاحتمالات الوهمي الذي يُحاول الكاتب وضعه هنا.

رابعاً: بناءً على اعتقاده الخاطئ الأول فإنه يبني اعتقاداً آخر خاطئ وهو "استحالة" تكوين أحماض نووية من نوع DNA و RNA وبناءً على هذا الاعتقاد الخاطئ المبني على الاعتقاد الخاطئ الأول فإنه يصل إلى نتيجة نهائية مفادها هو استحالة تكوّن خلية واحدة، وربما سمعتَ بالإنجاز العلمي الذي تمّ مؤخراً على يد كلٍ من: دانيال غيبسون وجيه كريك فينتر اللذان تمنا من إنتاج أول خليّة حيّة اصطناعية. ورغم كل ما يُقال عن هذا الإنجاز العلمي الهام، فإنه من الواضح قدرة العلم المُذهل على الإجابة عن التساؤلات الوجودية الخطيرة والمؤرقة لنا جميعاً حول أصل ومنشأ الحياة، فقط ما علينا إلا أن ننتظر نتائج هذه الأبحاث الجادة لنكتشف الحقيقة.

خامساً: الأمر الذي قد يجهله هذا الكاتب المجهول، هو أن نظرية التطوّر الداروينية مرّت هي الأخرى بطفرات كبيرة، فلم يكن عدم تمكن داروين من الإجابة على كثير من التساؤلات التي كانت مطروحة في وقته ناتجاً عن قصور في النظرية، وإنما في قصور في الوسائل والمعارف العلمية، وظلت هذه الأسئلة مُعلقة حتى حدثت الطفرة الكبرى في مجال علم الجينات مما ساعد كثيراً في وضع النقاط على الحروف، وجعل كثيراً من العلماء الذي رفضوا النظرية في البداية إلى الإقرار بها أخيراً. إن هذه الاكتشافات العلمية الحديثة دفعت بنظرية التطوّر دفعات قوية إلى الأمام، لدرجة أن مسألة التطوّر والانتخاب الطبيعي لم تعد مما يدور حولها شك أصلاً.

سادساً: يدعي الكاتب أن كائنات بدائية مثل [الأمبيا والرخويات والبكتيريا والطحالب] ينافي مبدأ الانتخاب الطبيعي [الآن فقط بدأ الكاتب في تناول نظرية التطوّر] فإن هذا الكلام يُعتبر جهلاً فاضحاً بالنظرية وبمبدأ الانتخاب الطبيعي نفسه. فالكاتب يبدو أنه لا يعلم أن البكتيريا [مثلاً] تعتبر كائناً متطوّراً على الدوام وينطبق عليها تماماً ما ينطبق على بقية الأنواع من حيث التطوّر والانتخاب الطبيعي، وهنالك مثلاً كائنات مجهرية انقرضت فعلياً كالكائنات المُسببة لمرض الطاعون، وتلك المُسببة للجدري، ولكن ما تبقى منها فهو منحدر من تلك الأصول [الأسلاف] القديمة لتشكل بذلك أنواعاً جديدة، وأمراضاً جديدة. والتطوّر الهائل في علم الأمراض والمضادات الحيوية يوضح ذلك بجلاء. ولكن مهلاً .. ماذا عن أنواع مثل: التماسيح والسلاحف ووحيد القرن مما تزال حيّة حتى اليوم؟

سابعاً: يتكلّم الكاتب عن تباين الصفات والامتيازات التي تتمتع بها بعض الكائنات التي يصفها بأنها [أقل مرتبة] محاولة الإشارة إلى أن هذا الأمر تفسير التسلسل في التطوّر أمراً صعباً. ولكن هذا الكاتب لا يعلم أن نظرية التطوّر أصلاً تدعم هذا التباين وتقول به، وبهذا فإن كلامه هذا لا يتنافى مع النظرية في شيء. قد قلنا أن التطوّر لا يعني التعقيد وإنما يعني اكتساب الكائن لصفات ومميزات تساعده في البقاء، ويختلف كل كائن في اكتسابه لهذه الصفات والمميزات سواء لطبيعة المناخ أو لطبيعة التضاريس أو غيرها من العوامل، كما أن فهمه الخاطئ هذا ناتج من عدم قدرته على التنازل عن غروره كإنسان يرى نفسه أرقى مرتبة من بقية الكائنات الحيّة، والحقيقة أن الإنسان كغيره من الكائنات الحيّة لا يختلف عنها على الإطلاق يمتاز بأشياء لا تمتاز به بقية الكائنات، كما أنه يفتقر إلى أشياء تمتاز بها بقية الكائنات.

ثامناً: يتكلم الكاتب عن التوازن الطبيعي والمناخي، ولا أعلم ما علاقة هذا الأمر بنظرية التطوّر، أو كيف يُمكن أن يُعتبر هذا التوازن نقداً للنظرية، بل ولا أعرف هل تحدثت النظرية عن شيء خلا هذا التوازن الطبيعي؟ ولكن ما أعرفه أن هنالكَ اختلافات كبيرة وشاسعة بين الأقاليم الجغرافية سواء من حيث المناخ أو من حيث التضاريس، وأن هذه الاختلافات المناخية تلعب دوراً هاماً في تحديد أنماط الأنواع وأشكالها. ولكن يبدو أن الكاتب يتغاضى عن أن التطوّر الذي تقصده النظرية يتم عبر ملايين السنين، وليس بين عشية وضحاها حتى يستشهد بمثل هذه الاستشهادات الغريبة.

إنه لمن المُضحك [أو المُحزن ربما] أنه في الوقت الذي ما نزال فيه نتجادل "اليوم" حول نظرية التطوّر وصحتها، بطريقة أقل ما يُقال عنها أنها تفتقر إلى الموضوعية والعلمية؛ يرى آخرون في طرف الكرة الأرضية الآخر أن نظرية التطوّر لم تعد نظرية على الإطلاق بل حقيقة علمية راسخة؛ ففي مقدمة كتاب [أصل الأنواع] المُترجم إلى العربية يقول الأستاذ سمير حنا صادق في تقديمه للكتاب: "لم يعد التطوّر نظرية، فكل الدلائل تؤكده، ولم توجد ظاهرة واحدة تنفيه، وقد أصبح موضعه في العلم مثل كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس، وأصبح من يرفضه كمن يرفض هذه الحقائق، وكل الخلافات التي تدور حول التطوّر إنما تناقش آليته"[1] كما ينقل عن بعض العلماء آرائهم حول النظرية، فينقل عن ناعوم تشومسكي قوله: "إن تقدم شعب من الشعوب يُمكن أن يُقاس بمدى تفهمه للتطوّر"[2] وينقل عن ستيفن هوكنز قوله: "من المُستحيل تفهم علم الفيزياء الآن دون أخذ تطوّر المخ البشري وخواصه والأساسية ومقدراته -التي تكونت خلال ملايين السنين من الانتخاب الطبيعي- في الاعتبار"[3] وإنني لأستغرب الطريقة والحجج التي يُوردها رافضو هذه النظرية والتي لا ترقى على الإطلاق إلى وصفها بالعلمية، وهي رغم بلاهتها إلا أنها منتشرة ومُصدقة من قاعدة كبيرة جداً من الناس، وما ذلك إلا لأن الأغلبية لا يهمهم على الإطلاق حجيّة ومصداقية الأدلة والبراهين، بقدر ما يسعون إلى التعلّق بأي نقد يُقدم إلى هذه النظرية، في سعيهم إلى تطمأنة أنفسهم بأنهم لم يفتهم ركب العلم، وأن عقيدتهم التي ينافحون عنها عقيدة صحيحة، وفوق كل الشبهات. مُعتقدين بذلك أن ما يُنتجه العلم والعلماء لا يعدو كونه مُجرّد محاولات للنيل من هذه العقيدة، فيظلون في وهمهم هذا، يضحكون من وراء الأسوار على هذه النظريات واصمين إياها بأبشع النعوت والصفات، وبعدد لا حصر له من الإفتراءات الكاذبة، دون أن يعلموا أنهم هم إنما يضحكون على أنفسهم.

لطالما تعّجبتُ من قدرة الأديان والعقائد على الثبات والرسوخ، ولكنني كل يوم أزداد يقيناً بخطر الأديان الذي يتمثل في استحواذه –فعلياً- على أدمغة البشر، والتحكم في طرائق تفكيرهم، بحيث يُصبحون وكأنهم قد تعرضوا إلى عملية غسيل دماغ، مُؤسس ومنظم. ومهما اختلفت وتباين مذاهب هذه الأديان والمُعتقدات، ومهما تظاهر الإنسان بالانفتاح والتقدمية والعلمية؛ إلا أنه يسقط في أول اختبار حقيقي لقدرته على التفكير العلمي البحت، وعندها تظهر سيطرة الأديان والخرافات على عقله. يتجلى هذا الأمر في رفض قاعدة كبيرة من المؤمنين وأتباع الأديان المُختلفة لنظرية التطوّر، رغم ثباتها، وهم في هذا الرفض، يُطالبون أتباع النظرية بالإثباتات، ورغم السيل العارم من الإثباتات المؤكدة والمشاهدة إلا أنهم يصمون آذانهم ويعمون أبصارهم عنها، فلا يرون فيها إلا حججاً واهية. على أن من دلائل صحة ورسوخ التطوّر البيولوجي المؤكدة نتائجها المُجربة والمُطبقة: "ففي مجال العلوم الطبية مثلاً لا يمكن أن نفهم بعمق علوماً مثل علوم التشريح anatomy أو علم الكيمياء الحيوية biochemistry أو علم وظائف الأعضاء physiology أو علم الأمراض pathology أو علوم الوراثة genetics بدون تفهم التطوّر البيولوجي وتصدق هذه المقولة على العديد من العلوم الأخرى كعلم الاجتماع sociology وعلم اللغويات linguistic ناهيكَ عن علم الإنسان anthropology".[4]

ولكن ورغم هذه التطبيقات الكثيرة والمفيدة للنظرية؛ إلا أنه ما يزال أمامنا مُعارضون، يرفعون سيوف الجهل المُطبق في مواجهة هذه الحقائق والمُنجزات المُطبقة فعلياً، والتي لا يستغني –هم أنفسهم- عنها اليوم. ويبدو أن قدر النظريات العلمية هو التصادم المباشر مع الأديان، فالنظريات التي تناولت كروية الأرض، جُوبهت في البداية بالرفض القاطع والحازم من قطاعات كبيرة من الناس: متعلمين وغير متعلمين، وكان الدين ورجال الدين يقفون وراء هذا الرفض، حتى محاولات السير شارلز لايل في إثبات أن الوديان والسهول والتضاريس المختلفة إنما تولدت نتيجة لعوامل التعرية والزلازل والبراكين، والتي تعتبر من البديهيات اليوم، جُوبهت بالرفض الديني[5] في ذلك الوقت [منتصف القرن الثامن عشر]

إن من أغرب الانتقادات التي يُمكن أن توجه إلى هذه النظرية هي النقد الشخصي لصاحبها، كاتهامه بالانتماء إلى أصول يهودية، وما ذلك إلى من أجل استخلاص نتيجة مُفادها أن ما ينتج عن دماغ اليهودي لا يُمكن أن يكون شيئاً سوى محاربة الدين الإسلامي، ولا يُمكن –بالتالي- أن يبتعد عن مخططات الدولة الصهيونية، ليُختزل الأمر في نهايته إلى "نظرية المؤامرة" التي لم يستطع كثير منا التخلص منها حتى اليوم، مهما ادعينا من التقدمية والوعي والعملانية، لتصبح هذه النظرية خرافة تقيدنا إليها بينما يعبر الآخرون خلال الزمن إلى عوالم أكبر وأوسع، ويواصلون في تقدمهم العلمي، بينما نقف نحن في مكاننا، ننعق بما لا نعي ولا نفهم، مؤكدين بذلك قول من قال بأننا مًجرد ظاهرة صوتية لا أكثر. بل إن من أغرب الانتقادات التي قدمت إلى النظرية هو الزعم بأنها لم تهتم أبداً بالنبات ولا الحيوان؛ وإنما ركزت أبحاثها وجهودها على الإنسان والبحث عن أصله، متجاوزين بذلك الحقائق المُجردة حول رحلة داروين التي غيّرت العالم، ونواياه الحقيقية وراء هذه الرحلة. فقد "كان أكثر ما يُقلق داروين وصول هذه النباتات (نباتات مرتفعة الأوراق) والحيوانات (أنواع غريبة من السحالي والسلاحف) إلى هذه الجزر البعيدة المنعزلة عن القارات الرئيسية. فقد زعم علماء النبات أن بذور النباتات لا يُمكن أن تعيش في الماء المالح لمدد طويلة، فأجرى داروين تجارب على بذور بوضعها في ماء مالح بارد لمدد طويلة ، ووجد أنها تنمو طبيعياً لو زرعت بعد ذلك، وبذلك أثبت إمكان انتقال بذور النباتات مع تيارات المحيط"[6] وهكذا نرى أن اهتمام داروين الأول كان دراسة النباتات والحيوانات في المقام الأول، وقد أوضحت الدراسات لداروين ما أمكن تغييره من أنواع الكلاب والماشية والنباتات، وإمكانية إحداث تغيير في مملكتي الحيوان والنبات[7] لينكشف بذلك كذب وتدليس هؤلاء الذي لا يتورعون عن الافتراء والكذب من أجل الإبقاء على مصلحتهم في دحض النظرية، بأي شكل، ولو عبر الكذب والتدليس. ولكي نخرس ألسنة الخراصين بالكذب والجهل حول مسار اهتمام داروين الأساسي والرئيسي نقدم لهم بعضاً من سلسلة أعمال منشورة لداروين في علم النبات منها على سبيل المثال:
[تأثير التهجين والإخصاب الذاتي في مملكة النبات] - 1876
[الأشكال المختلفة للزهور في النباتات التابعة لنوع معين] - 1877
[النباتات المفترسة] - 1875
[النباتات المتسلقة] - 1875
[القدرة على الحركة في النباتات] - 1880

غير أن ما يُثير الدهشة حقاً هو هذا الهجوم الشرس تجاه داروين والنظرية التطوّرية وأتباعها الآن، علماً بأن داروين لم يكن أول من صرّح بالأصل الواحد للأنواع، فقد تناول هذا الأمر من قبل كل من طاليس وأناكسمندر وأرسطو في كتاباتهم، وكانت هنالك العديد من النظريات التي تناولت أصل الأنواع وبداية الحياة الأولى، كنظرية عالم الأحياء الفرنسي لامارك والذي كان قد بدأ في دراسة اللافقاريات وامتدت –بعد ذلك- دراسته إلى الفقاريات، غير أنه لم ينجح في صياغة نظرية حول هذا الأمر ببساطة لأنه وضع فرضيات خاطئة؛ فلماذا الهجوم على داروين تحديداً؟

إن الضربة القاضية القاصمة والرادعة لكل من يدعي بخرافات وأكاذيب لا صلة لها بنظرية التطوّر ولا بصاحبها داروين تكمن في مقدمة مترجم كتاب [أصل الأنواع] الأستاذ مجدي محمود المليجي والتي يقول فيها حرفياً: "هذا الكتاب يتناول نشأة الأنواع الحيّة في مجموعها، ولم يأت فيه ذكر الإنسان أو القرد"[8] بل ويُضيف: "ولم يتعرض لما يتشدق به الكثيرون من أشباه العلماء الذين يدعون أنه قد جاء في هذا الكتاب وهذه النظرية ما يُفيد أن الإنسان قد كان في الأصل قرداً"[9] وهكذا نرى أن أول الآية عند هؤلاء كُفر، فكيف لنا أن نصدق بأنهم يُحاولون نقد النظرية حرصاً على الأمانة العلمية، وتخليصاً للناس من كيد اليهود الصهاينة؟ وقد عزا المُترجم هذا التخبط إلى أنهم قد لا يكونوا قد اطلعوا على الكتاب بنسخته الإنكليزية، أو أنهم لم تتح لهم فرصة الاطلاع على نسخة مُعربة منه[10]، وأنا أرى أنه كان حسن النيّة جداً في اعتقاده ذلك، لولا أنه أطلق رصاصة الرحمة على هؤلاء عندما قال: "ولقد تبيّن لي بوضوح في أثناء قيامي بترجمة هذا المجلد، الكم الهائل من الأخطاء الشائعة والخلط بين المعاني الموجود في تعريب المصطلحات العلمية"[11]

وفي النهاية لا أملكُ إلا أن أضم صوتي لصوت الأستاذ مجدي محمود المليجي [مترجم الكتاب] عندما قال: "وأتمنى أن يقوم غيري بدوره في قراءة هذا المُجلد والتفكّر فيما جاء فيه فإن نظرية داروين الخاصة بنشأة الأنواع الحيّة وتطورها وارتقائها عن طريق الصراع من أجل البقاء، تماثل –في قلبها للمفاهيم الجامدة القديمة- ما جاء به جاليليو جاليلي (...) فإن كليهما يمثل إحدى العلامات المهمة في سبيل توجيه العقل البشري نحو التفكير العلمي السليم"[12]

بعض أدلة داروين على نظرية التطوّر:
إن من أولى الملاحظات التي تجدر الإشارة إليها عند وضعنا لفرضية مثل فرضية تشابه الإنسان مع بقية الأنواع أو الكائنات الحية هو الشبه الهيكلي الكبير حد التطابق أحياناً بين الإنسان وبقية الكائنات الحية المنتمية إلى فصيلة الثديات. "فإن معظم العظام الموجود في الهيكل العظمي (لدى الإنسان) من الممكن مقارنتها مع العظام المناظرة الموجودة في أي قرد أو خفاش أو فقمة، والأمر كذلك فيما يتعلق بعضلاته وأعصابه وأوعيته الدموية وأحشائه الداخلية، وكذلك المخ (...) فإنه يتبع نفس القوانين، وذلك ما تم توضيحه بواسطة هوكسلي Huxly وخبراء علم التشريح الآخرين"[13] ويُضيف داورين قائلاً: "ويعترف بكسوف Bischoff (الذي يُعتبر من الشهود المعارضين) أن كل شق رئيسي، وكل ثنية رئيسية في مخ الإنسان له نظيره الخاص بالأورانج[14]، ولكنه يُضيف: أن أمخاخها لا تتوافق بشكل كامل، عند أي فترة من مراحل تكوينها"[15] وقبل أن يُهلل مناهضو النظرية فرحاً فإن عليهم الصبر حتى قراءة كامل نص كلام داروين ورده على بكسوف؛ إذ يقول في رده عليه: "ونحن لا يُمكن لنا أن نتوقع أن يكون هنالك أي توافق كامل فيما بينها، وإلا فإنه يكون من المتوقع أن تصبح قدراتهما الذهنية متساوية، وقد علق فوليبان Vulipan بقوله: والفروق الحقيقية الموجودة بين مخ الإنسان وأمخاخ القرود العليا هي في منتهى الضآلة (...) فالإنسان قريب جداً [في صفاته التشريحية وفي ذكائه] من القرود الشبيهة بالإنسان"[16]

ومن الأمثلة التي يُقدمها داروين للاستدلال بالقرابة أو التشابه الكبير في الأنسجة والدم بين الإنسان والحيوانات الدنيا هو قابلية الإنسان استقبال أو نقل بعض أنواع الأمراض مثل: داء الكلب الجدري، والزهري، والكوليرا وغيرها من الأمراض، كما أن أحد العلماء لاحظ إصابة إحدى فصائل القرود بنزلات البرد تشابه تلك التي تصيب الإنسان وبنفس الأعراض، كما أنها بالإمكان الانتقال إلى طور السُل أيضاً، ويقول (=أي داروين) أن هذا الأمر هو مما يؤكد المماثلة الحميمة بين أنسجة ودماء الإنسان والحيوانات الدنيا. وفي الصورة التي تظهر هنا رسم يوضح مقاربة بين جنين الإنسان وجنين كـلـب[17]:



a) مقدمة الدماغ ونصفي كرة المخ وتوابعهما
b) الدماغ الأوسط والأربعة أجسام التوأمية
c) الدماغ الخلفي، والمخيخ، والنخاع المستطيل
d) عين
e) أذن
f) القوس الحشائي الأول
g) القوس الحشائي الثاني
h) الأعمدة الفقرية والعضلات في أثناء مرحلة التكوين
i) الأطراف الأمامية
j) الأطراف الخلفية
k) الذيل والعصعص

أحد أدلة داروين أيضاً هو ما سمّاه بالأعضاء [الأثرية] وهي الأعضاء التي تكون موجودة دون أن يكون لها أي استخدامات تذكر في الكائن الحي، ويرى داروين أن الإنسان والحيوانات العليا يشتركان في اشتراكهما في هذه الصفة أيضاً [حمل أعضاء أثرية] وبصورة متقاربة ومتطابقة تقريباً، ومن هذه الأعضاء الأثرية غير المكتملة: الثديين عن الذكور في الحيوانات رباعية القوائم، الأسنان القاطعة عند العشبيات المُجترة، ويرى داروين أن هذه الأعضاء ليست ذات فائدة تذكر، وبالتالي فإنها لم تعد خاضعة للانتقاء الطبيعي[18]

وهذا ويُقدم داروين في كتابه [نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي] مجموعة كبيرة من الشواهد والأدلة على وجود مقاربات ومماثلات بين أنواع كثيرة من الكائنات الحية، وهو يوضح -بطريقة سهلة ومُيسرة- كيفية حدوث التطوّر، ولكن لا يُمكننا الجزم بأن مجرّد قراءة كتابي داروين [نشأة الإنسان] و [أصل الأنواع] قد يُقدم لنا إجابات شافية وكاملة عن مُجمل التساؤلات التي قد تخطر في بالنا؛ إذ علينا أن نستصحب مع هذين الكتابين قراءة وافرة وعميقة في علم الجينات والذي ساعد كثيراً في نقل نظرية التطور قفزات واسعة إلى الأمام، وعززت كثيراً من فرضياتها إلى أن أصبحت بهذا الثبات التي هي عليه الآن. إنه من الصعب فعلاً نبذ المعتقدات الراسخة والتخلي عنها، وأنا –شخصياً- أقدّر مدى صعوبة هذا الأمر، ولكن إذا كنا نبحث عن الحقيقة المجردة فعلاً، فما علينا سوى أن نقرأ كثيراً، بقلوب وعقول منفتحة، أن نسمح لنور العلم أن يتسلل إلى عقولنا، ونعطيه هذه الأفكار الثورية فرصة الإفصاح عن نفسها بكل حرية، ولنرى بعد ذلك ما إذا كانت معتقداتنا القديمة سوف تصمد أمام هذه النظريات العلمية أم لا. إنني أزعم أن مستقبل العالم الآن يتجه نحو اللادينية، فكلما تقدمت العلوم كان ذلك يعني بالضرورة اندحار الخرافة والأسطورة، وربما تصبح الأديان يوماً ما تراثاً بشرياً نتذكره بكل ألم. ربما يُفهم كلامي على أنه دعوة صريحة للإلحاد أو نبذ الأديان، ولكن صدقوني، أنا لا أسعى إلى أن أغيّر معتقد أحد، لأنني على يقين بأن الإنسان سوف يفعل ذلك من تلقاء نفسه، فقط إذا سمح لعقله بأن يفكر ويعمل بحرية ودون خوف.

لن أتلقى أيّ مُكافئة مادية أو غيبية في حال غيرتم معتقداتكم، ولكنه فقط محاولة لإظهار الحقيقة، ولا يهم بعد ذلك النتيجة التي تتوصلون إليها بأنفسكم شرط أن امتلكتم الجرأة في مواجهة النفس. لكم بعد ذلك أن ترفضوا النظرية وأن لا تقبلوا بها، فهذا لا يعنيني في شيء، ولكن يعنيني أن يكون رفضكم لها قائماً على حجج حقيقية وقوية. يهمني ألا يُضطر أحد إلى الكذب والتدليس والالتفاف على الحقيقة من أجل تشويه النظرية حفاظاً على عقيدته التي لا يرغب [لسبب ما] في عدم تغييرها، ولكن اعلموا أن بقاءكم خائفين يصب في مصلحة أُناس آخرين يسعون دائماً إلى إبقائكم تحت رحمتهم، لأن في بقائكم كذلك بقاء وديمومة لهم ولسلطتهم.


--------------------
الهوامش:
[1] كتاب "أصل الأنواع"، تشارلز داروين – ترجمة مجدي محمود المليجي، المجلس الأعلى للثقافة [المشروع القومي للترجمة] – الطبعة الأولى 2004 ص16-17
[2] المصدر السابق ص16
[3] المصدر السابق ص16 نقلاً عن كتاب [تاريخ موجز للزمن]
[4] المصدر السابق ص17
[5] المصدر السابق – نفس الصفحة
[6] المصدر السابق – ص19
[7] المصدر السابق –ص21
[8] المصدر السابق –ص25
[9] المصدر السابق – نفس الصفحة
[10] المصدر السابق – نفس الصفحة
[11] المصدر السابق – نفس الصفحة
[12] المصدر السابق – ص26 بتصرّف
[13] كتاب "نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي"، تشارلز داروين – ترجمة مجدي محمود المليجي، المجلس الأعلى للثقافة [المشروع القومي للترجمة] – الطبعة الأولى 2005 – المجلد الأول ص91 (بتصرّف)
[14] الأورانج – أورانج يوتان Orang هو إنسان الغاب، وهو فصيلة من القرود عديمة الذيل.
[15] المصدر السابق – ص91-92
[16] المصدر السابق – ص92
[17] المصدر السابق – ص97
[18] المصدر السابق – ص100


سقطات الأنبياء

فكرة النبوة قائمة في أساسها على مبدأ الاصطفاء الإلهي، وهو ما يجعلنا نطرح تساؤلاتنا حول هذا الاصطفاء ما إذا كان نتيجة أم قرار. فكون الاصطفاء قراراً فهو يعني أسبقية الاصطفاء الإلهي أو المشيئة الإلهية على السلوك البشري، وبالتالي يُصبح الأمر من قبيل الإعداد المُسبق، وهو ما يجعل الشخوص التاريخية عرضة لهذا الاصطفاء؛ فقط يعتمد الأمر على من سيقع اختيار الإله؟ ومن سيقع عليه الاختيار ليس بالضرورة أن يكون مُؤهلاً للنبوة ذاتياً، وإنما يكتسب هذه الصفة لاحقاً بناءً على التأهيل الفوقي الذي يخضع له النبي، بحيث يُصبح الأمر تهيئة مُسبقة للنبوة وهو ما يجعل النبي معصومًا بموجب هذه المشيئة الإلهية المسبقة، وفي هذا يستوي البشر جميعاً، فقط في حال وقع الاختيار على أحدهم، وهو ما يتنافى مع مبدأ العدالة؛ إذ يجعلنا نتأكد من مصدر السلوك الخيّر والشرير، وبالتالي نطرح تساؤلنا حول: لماذا يُعاقب الإله على السلوك الذي يختاره أفراد أراد لهم أن يكونوا أشراراً، ويُثيب على السلوك الذي يختاره لأفراد آخرين أراد لهم أن يكونوا أخياراً؟ وإذا كان الاصطفاء قائماً على سلوك بشري مستقل عن الإرادة والمشيئة الإلهية فإن هذا يجعلنا ننزع عن هؤلاء الأنبياء صفة العصمة المُطلقة، لأن سلوكهم في نهايته هو سلوك بشري يُمكن توافره في أيّ شخص آخر. ولكن طبيعة الأمر أن ثمة اصطفاء إلهي معلوم؛ لذا نقرأ في القرآن {{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}}[آل عمران:33] وكذلك: {{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}}[النمل:59] وكذلك: {{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}}[البقرة:130]

في هذا المبحث البسيط سوف أحاول تقصي سقطات الأنبياء التاريخية والتي تم إسدال الستار عليها بوضع هالة من القداسة على هؤلاء الشخوص باعتبارهم أنبياء تم اختيارهم واصطفاؤهم بعناية من قبل الإله ليبلغوا رسالته ودعوته، وليكونوا للناس بمثابة المصابيح المنيرة والأنجم التي يهتدون بها في حوالك الليالي المُدلهمة، وسوف أعتمدُ في بحثي هذا على ما جاء من كُتب التفاسير المُعتمدة تجنباً للخوض في مغالطات تاريخية يصعب إثباتها أو نفيها على وجه الإطلاق، لنقف بعد ذلك على إمكانية التصديق ببراءة هذه الشخصيات، ونقائها الذي يخوّلها للنبوة من عدمه، وسوف نقتصر مبحثنا على بعض الأنبياء ممن وقفنا على سقطاتهم، ووقف عليها غيرنا آخرون.

أولاً: نـــــوح
يُعتبر نوح أحد الأنبياء الذين شملهم الاصطفاء الإلهي بناءً على الآية [33] من سورة آل عمران، وقد ورد ذكره في كثير من المواقع في القرآن، كما أنه معدود ضمن قائمة أولي العزم من الرسل والتي تتضمن إبراهيم، وموسى، وعيسى ومحمد حسب أشهر الروايات؛ إلا أن بعض الروايات تضيف هوداً وشعيباً إلى القائمة كما جاء عن قتادة، وبعضهم يُضيف إسماعيل، ويعقوب وأيوب كما جاء عن ابن جريج، والبعض يُضيف صالحاً وسليمانَ كما نقل ابن مردويه عن ابن عباس، وهنالك روايات تعد أولي العزم من الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً كما نقل عن جابر بن عبد الله. وعلى أية حال فإن المشهور أن هؤلاء الخمسة ثابتون في كل القوائم المختلف عليها.

وقد جاء في قصة الطوفان أن الإله وعد نوحاً بنجاة أهله ممن آمنوا معه، ولكن ابنه يام (وقيل كنعان كما في تفسير ابن كثير) غرق ضمن من غرقوا من الكافرين وجاءت آيات تصف هذا المشهد في سورة هود؛ إذ نقرأ: {{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}}[هود:42/43] والحقيقة أن ثمة خلافاً كبيراً حول هذا الابن الذي غرق في الطوفان، فالبعض يذهب إلى أنه ابن نوح فعلاً، وعلى هذا فهم يُقدمون نقدهم لنوح على إصراره في أن يركب ابنه معه رغم معرفته المُسبقة بأنه كافر، وأن وعد الإله له استثناء الكافرين بقوله: {{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}}[هود:40] إذن أفلم يكن نوح يعلم بكفر ابنه، وهو من أهل بيته؟ الراجح أنه كان يعلم، وعلمه هذا لم يمنعه -على نبوته- أن يُجادل الإله في إنقاذ ابنه، وأن يتجنى عليه بقوله {{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}} رغم أن الاستثناء كان واضحاً وصريحاً {{وأهلك إلا من سبق عليه القول}} فكان من المعلوم إذن مَن مِن أهله سيكون معه، ومن سيكون من المُغرقين، ولكنه رغم ذلك جادل واعترض، وقد تلقى توبيخاً من الإله على ذلك في قوله: {{فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلين}}

الأمر الآخر يكمن في قوله: {{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}} فقد توقف بعض المُفسرون والمؤرخون عن قوله {{إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}} ففما ذهب المُفسرون إليه: اعتبار الضمير المتصل في [إنه] الثانية إلى سؤاله، أي سؤال نوح عن سبب عدم إنقاذ الإله لابنه، فقالوا إن العمل الغير صالح هو سؤال نوح عن ابنه وعدم إنقاذه [أو اعتراضه بصفة عامة]، وأرى أن ذلك من تلفيقات المُفسرين، لأن صياغة الجُملة لا تحمل هذا المعنى على الإطلاق، فالكلام هنا كان حول الابن وبصورة مباشرة {{إنه ليس من أهلك}} فيُصبح المقصود بالعمل الغير صالح هنا هو الابن. وقد عرف بعض المُفسرون استحالة تفسير الآية على غير ذلك؛ إلا أنهم ذهبوا إلى أن سبب عدم صلاح ابن نوح يكمن في كونه كافراً، ولكنهم تناسوا عندئذ تلك الآية التي تذكر زنا امرأة نوح والتصريح بذلك في قوله: {{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}}[التحريم:10] ورغم أن المُفسرين يذهبون إلى أن خانتهما كان في مخالفتهما لزوجيهما في الدين، وأنهم بنوا على ذلك قاعدة تنفي زنا امرأة نبي قط؛ إلا أننا لا نرى ذلك، فنبوة النبي القائمة على الاصطفاء لا تشمل زوجته بالضرورة، وإلا لكانت جزءاً من النبوة وهذا غير وارد، ونحن نرى أن نساء الأنبياء، كأيّ من النساء، من الممكن أن تكون صالحة ومن الممكن أن تكون غير ذلك، ولا نرى ما يمنع من فساد أخلاق نساء الأنبياء إلا أن يكن نبيّاتٍ هن أيضاً.

وقد تطرقتُ فيما سبق إلى احتمالات الاصطفاء الإلهي بكونه نتيجةً أو قراراً، ورأينا أن الراجح أن الاصطفاء قرار لا نتيجة، وهذا القرار لا يشمل أهل بيته بالتأكيد، وبالتالي فإن احتمالات عدم صلاح أهل البيت متساوية بالتناصف مع احتمالات الصلاح، ولا شيء يجعلنا نقول بأن زوجات الأنبياء لا يُمكن أن يأتين فاحشة؛ لاسيما وإن لم يكن على دين أزواجهن، ذلك لأن اختلاف المعتقد قد يُفسد الود الزواجي، وبالتالي قد يُؤثر على شكل العلاقة الزواجية، ولا ندري ما الذي منع لوطاً، ونوحاً من قبل من تطليق زوجتيهما؛ لاسيما أنهما كانتا كافرتين!

ومن ناحية أخرى فإننا لا نجد أيّ معنى لربط الخيانة بالزواج إلا أن تكون خيانة بإتيان فاحشة، وإذا قرأنا الآية التي تلي الآية [10] من سورة التحريم الواردة أعلاه: {{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}} نجد أن المثل مضروب للذين آمنوا بامرأة فرعون، ولكن لم يرد أيّ ذكر للخيانة لا من ناحية فرعون ولا من ناحية زوجته، فإذا كانت الخيانة معناها اختلاف الدين كما يذهب المفسرون، فلماذا لم يذكر القرآن أن امرأة فرعون خانته كذلك طالما أن الخيانة هنا لا تعني إلا مخالفة الدين؟

وهذا الظن ليس حصراً علينا بالتأكيد، فمن المُفسرين من ذهب إلى ذلك أيضاً كما نقرأ في تفسير القرطبي والذي جاء فيه نصاً: "عَمَل غَيْر صَالِح . قَالَ قَتَادَة . وَقَالَ الْحَسَن : مَعْنَى عَمَل غَيْر صَالِح أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشه وَلَمْ يَكُنْ اِبْنه . وَكَانَ لِغَيْرِ رِشْدَة , وَقَالَهُ أَيْضًا مُجَاهِد . قَالَ قَتَادَة سَأَلْت الْحَسَن عَنْهُ فَقَالَ : وَاَللَّه مَا كَانَ اِبْنه ; قُلْت إِنَّ اللَّه أَخْبَرَ عَنْ نُوح أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي " فَقَالَ : لَمْ يَقُلْ مِنِّي , وَهَذِهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ اِبْن اِمْرَأَته مِنْ زَوْج آخَر ; فَقُلْت لَهُ : إِنَّ اللَّه حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي " " وَنَادَى نُوح اِبْنه " وَلَا يَخْتَلِف أَهْل الْكِتَابَيْنِ أَنَّهُ اِبْنه ; فَقَالَ الْحَسَن : وَمَنْ يَأْخُذ دِينه عَنْ أَهْل الْكِتَاب ! إِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ . وَقَرَأَ : " فَخَانَتَاهُمَا " [ التَّحْرِيم : 10 ] . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : نَادَاهُ وَهُوَ يَحْسَب أَنَّهُ اِبْنه , وَكَانَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشه , وَكَانَتْ اِمْرَأَته خَانَتْهُ فِيهِ , وَلِهَذَا قَالَ : " فَخَانَتَاهُمَا" وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى قَوْل الْحَسَن وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : أَنَّ الْوَلَد لِلْفِرَاشِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ نُوح مَا قَالَ آخِذًا بِظَاهِرِ الْفِرَاش . وَقَدْ رَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو بْن دِينَار أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْد بْن عُمَيْر يَقُول : نَرَى رَسُول اللَّه صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ مِنْ أَجْل اِبْن نُوح عَلَيْهِ السَّلَام ; ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب " التَّمْهِيد ". وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْوَلَد لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر ) يُرِيد الْخَيْبَة" [المصدر: تفسير القرطبي] وكذلك قال الحسن والشعبي وابن جريج.

الأمر الآخر الذي نأخذه على نوح أنه ضاق ذرعاً بالدعوة، ويئس من قومه الذين لم يستجيبوا لدعوته، فراح يدعوا عليهم بقوله: {{وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا}} فهو هنا يطلب من إلهه أن يزيدهم في ضلالهم، وهو سلوك مُستغرب من نبي معدود في أولي العزم من الرسل، وقنوط لا يجب أن يتصف به نبي مُصطفى من الإله، كما أننا نقرأ قوله كذلك: {{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}} فهو هنا يُطلب من إلهه أن يُبيد الكافرين عن بكرة أبيهم، ولا أدري إن كان من صلاحيات الأنبياء أن يدعوا بدعاء مثل ذلك؟ كما أننا نعلم أن الرسل، قبل محمد، إنما أُرسلوا إلى أقوام بعينهم، فإذا كفر قومه ولم ينجح في هدايتهم، فلماذا يطلب إبادة الكفار على الأرض جميعاً؟ وهل كان بالإمكان أن يُطلق نوح على بقية البشر ممن لم يُرسل لهم [كفاراً] ليُطالب بإبادتهم كذلك؟ ثم فلنقرأ تبريره لهذا الطلب الوحشي {{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}} الحقيقة أن هذا التبرير واهٍ إلى أبعد الحدود كما أن فيه جهلاً لا يليق بني على الإطلاق، وكأن الضرورة تقتضي ألا يلد الكافر إلا كافرًا.

فإذا قارنا هذا الكلام وهذا السلوك التعميمي المُخل بما ورد عن محمد (رسول الإسلام) في الأثر مما يذكره عن نفسه وهو مشهور في كتب السيرة: "قال صلى الله عليه وسلم: "انطلقت – يعني من الطائف – وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب – ميقات أهل نجد – فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين – جبلان بمكة – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " [متفق عليه] [المصدر: صيد الفوائد]

بمقارنة فعل محمد بفعل نوح، نجد أن ما قام به نوح يُعتبر منافياً للخلق الإلهي الذي من المفترض أنه قد تربى عليه مُسبقاً (أي قبل الاصطفاء)، ولكننا لا نجد أيّ عتاب من الإله تجاه هذا السلوك الهمجي، والذي يُخالف سُنة الإله نفسه في الخلق كما ورد في القرآن {{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}}[يونس:99] فإيمان الناس جميعاً ليس مطلوباً، بل ليس منصوصاً في سُنة هذا الإله على الإطلاق، فكيف يخرج عن سُنته، بل وكيف إذا خرج عنها لم يُعاقبه، ولم يوبّخه على ذلك؟

ثم فلنقف أخيراً على خاتمة دعائه، أيّ بعد أن دعا بإبادة أهل الأرض جميعاً من الكفار، فنجده يقول: {{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}} فهو يزيد على إصراره بأن يزيد الظالمين ضلالاً على ضلالهم، رغم أنه لم يُرسل إلا من أجل هدايتهم، فهل هذا سلوك نبي مُؤيّد من إله فعلاً؟

السبت، 16 أكتوبر 2010

مواقف نقدية من التراث الإسلامي

لقد تعرض التاريخ الإسلامي إلى الكثير من التزييف المعلوم وغير المعلوم، وبناء على المعلوم منه وغير المعلوم تختلف اتجاهات وأغراض المؤرخين الإسلاميين. ولقد تناولت كتب التاريخ الإسلامي بشكل عام وكتب السيرة بشكل خاص العديد من الموضوعات التي تكاد تكون في حبكتها الدرامية، أشبه بالأساطير التي تروى في أدب الأطفال لما فيها من خيال يفتقر إلى أبسط مقومات العملية التأريخانية العلمية. وينزع غالبية هؤلاء المؤرخين إلى محاولات إضفاء طابع القداسة والنورانية الخالصة على تلك العهود لاسيما فترة البعثة المحمدية، متجاهلين أبسط القواعد المتعبة في التأريخ سواء بالتتبع التاريخي والزمني للأحداث، أو من حيث الدقة في الإحصاء. فمثلاً: نجد أنّ المؤرخين لم يكونوا دقيقين في مسألة إحصاء عدد المتآخين من الأنصار والمهاجرين، فذكر بعضهم أنهم تسع وتسعون في حين ذكر آخرون أنهم مائة رجل، وبعضهم زاد على ذلك، ومنهم من قال أنه لم يظل مهاجر إلا وتمت مؤاخاة مع أنصاري بالمقابل. وإذا عرفنا أنّ عملية المؤاخاة هذه كانت من أهم الأحداث التي تمت بعد هجرة محمد وأصحابه إلى يثرب، نجد أنه ليس من المنطق أن يجهل المؤخرون عدد المتآخين من حيث أنّ هذا الحدث يُعدّ من أهم الأحداث التاريخية في تلك الفترة. قد يكون لتأخر عملية التدوين دور كبير في ذلك، ولكن سوء النيّة وارد بالنسبة إليهم، لاسيما عندما نعلم أنّ المؤرخين يؤكدون على مؤاخاة من لا يمكن مؤاخاتهم من المهاجرين والأنصار.

فمثلاً: نجد أنهم يقولون بأن جعفر بن أبي طالب قد تمت مؤاخاته مع معاذ بن جبل رغم أن جعفر بن أبي طالب كان في الحبشة تلك الفترة! وتذكر بعض كتب التاريخ الإسلامي والسيرة ومنها "سيرة بن هشام" والبلاذري والطبري أن أبا ذر الغفاري قد تمت مؤاخاته مع (...) بن عمرو الساعدي، والصحيح أن أبا ذر لم يأت إلى المدينة إلا بعد فكّ المؤاخاة. وهكذا نرى أن عملية التدوين للسيرة لم يكن تدقيقاً إن لم نقل أنه كان ارتجالياً في كثير من الأحيان.

لقد ساعد ذلك كله في بذر الشك في النفوس تجاه ما حدث بالفعل سواء على مستوى السيرة النبوية بشكل خاص أو في حياة الصحابة وطبيعة العلاقات التي كانت تربطهم. بل إنّ كثيراً من المؤرخين في عمليات ارتجالهم غير المسئولة تلك يتجاهلون في كثير من الأحيان النصوص القرآنية الواضحة. ففي حين يفرّق النص القرآني بين المسلمين أنفسهم ويصنفهم إلى: مهاجرين وأنصار ويفرّق بين المهاجرين السابقين والمتأخرين أو المتلكئين كما يتم التصنيف في نصوص أخرى على أساس من ناصر الإسلام بالمال عمن لم يدافع بماله إلا في فترات متأخرة لم تكن فيه الحوجة للمال ماسة كما في بدايات الدعوة.

في هذا المبحث سوف أحاول تسليط الضوء على ما ذكرته كتب السيرة والتاريخ الإسلامي من بعض المواقف التي لا تتفق مع النسق العقلاني أبداً ، ونفندها نقداً وتمحيصاً، لنسأل السؤال الأكبر بعد ذلك: لماذا نزع المؤرخون المسلمين إلى تزييف الحقائق في التاريخ الإسلامي؟ ما هو غرضهم من ذلك؟


غياب الوحي أم غياب المصدر؟
روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى اللهم عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه قال: "أخبرني به جبريل آنفا قال ابن سلام ذاك عدو اليهود من الملائكة قال أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي فجاءت اليهود فقال النبي صلى اللهم عليه وسلم أي رجل عبد الله بن سلام فيكم قالوا خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا فقال النبي صلى اللهم عليه وسلم أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام قالوا أعاذه الله من ذلك فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قالوا شرنا وابن شرنا وتنقصوه قال هذا كنت أخاف يا رسول الله"

وردت هذه الرواية أيضاً في مشكاة المصابيح وفي مسند الإمام أحمد وفي صحيح الجامع الصغير. وهنالك رواية أخرى مشابهة لهذه الرواية عن لجوء مشركي قريش إلى أحد الرهبان اليهود، وطلب العون منه في كشف حقيقة محمد، فقال لهم (لأسألنّه عن ثلاثٍ لا يعرفها إلا نبي) فكان أن سأله عن: الروح، وأصحاب الكهف، وعن أمرٍ ثالث، فما كان من محمد إلا أن طلب من الكاهن إمهاله بضعة أيام انتظاراً للوحي، ويقال أنّ الوحي قد تأخر حتى بدأ القوم يتشككون في مصداقيته، حتى نزلت سورة "الكهف" وأخرجته من هذا المأزق. ومن مفارقات هذه الرواية الغريبة وغيرها من الروايات الأخرى المشابهة، هو معرفة السائل بالمسئول عنه رغم ارتباط هذه المعرفة بالأنبياء فقط. فإن كانت هذه الأمور -في تلك الحقبة المتدنية من العلوم- معروفة لراهب أو كاهن يهودي فأين وجه الإعجاز في الإجابة عليها؟ وإذا كانت هذه الأمور لا يعرفها إلا نبي فكيف للراهب أن يعرفها ليعود فيصدّق زعم محمد بمعرفتها بعد ذلك؟ وهل كانت قريش أصلاً تبحث عن صدق أو كذب محمد أم أنّ أصل وجوهر الخلاف بين قريش وبينه قائماً على رفض هذه الدين الجديد الذي كان يُهدد مصالحهم وسيادتهم في المقام الأول؟ إذا طرحنا على أنفسنا هذه الأسئلة بتجرّد كبير، نجد أنّها تفضي إلى حقيقة مفادها أنّ هذه الحادثة مختلقة ولا أساس لها من الصحة. إنها أشبه ما تكون بتلك القصص الكاذبة والمختلقة التي تنتجها الماكينية الدعائية لتقوية موقف الإسلام وتعضيده حتى ولو كان بالباطل أو التلفيق، ومثل هذه المحاولات ما زال بعضها قائماً حتى الآن، فتلك القصص عن أشجار في شكل رجل راكع أو ساجد، وتلك السمكة التي نقش على بطنها جملة "لا إله إلا الله" وذلك الصبي الذي نقش على كفه عبارة "لا إله إلا الله" مثلاً أو غيرها من تلك الخزعبلات التي يحاولون بها إيهام الناس بأصالة الإسلام والتدليل على ذلك به.

هذه الرواية بها مفارقة أخرى غريبة، فلو كان الحبر اليهودي جاء لسؤال محمد عن أمر لا يعرفه إلا نبي، وكان ذلك من باب إقامة الحجة عليه، فإن من الإعجاز أن يتنزّل عليه الوحي في التو واللحظة حتى يُسكت المغرضين الذي يحاولون النيل من دعوة الإسلام أو يحاولون التشكيك في النبوة من أساسها. ولكن طلب محمد بالمهلة حتى نزول الوحي يدلنا على أمر آخر بعيد المعنى، وهو أنه في الحقيقة لم يكن في انتظار الوحي، كما تشير الآثار، بل كان يبحث عن إجابات لهذه الأسئلة من مصدرٍ ما ظل مجهولاً في كتب التاريخ والسيرة، وهذا المصدر كان هو مصدره في الكثير من القصص والأخبار التي أخبر بها قبل وبعد ذلك. وربما كان هذا المصدر شخصاً أو مجموعة أشخاص متفرقين، وربما علموا أو لم يعلموا باستفادة محمد من المعلومات التي يقدمونها له. والراجح أنهم لم يكونوا على دراية بذلك أبداً.

ومن المفارقات أيضاً أنّ إجابات محمد على أسئلة الحبر اليهودي بعد ذلك لم تكن دقيقة بما يكفي بل جاءت في صور عامة. فإجابة السؤال المتعلق بالروح كانت الإجابة عليه بـ( يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي) وإجابة السؤال عن أصحاب الكهف وعددهم كان غير واضح كفاية (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعه وثامنهم كلبهم "قل ربي اعلم بعدتهم" ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً) وربط هذه الإجابة باعتبار الخوض في هذه الأمور من الجدل والمراء الذي لا طائل منه، وبهذا أغلق الباب نهائياً حول أسئلة أخرى مشابهة. ومن الواضح أنّ محمداً لم يستطع الاتصال بمصدر أو مصادر معلوماته وحاول جاهداً في ذلك، فلما لم يستطع اختلق هذه الإجابة المبهمة التي لا توضح شيئاً من الأمر. فكيف لله أن يترك نبيّه في هذا الموقف المحرج، وأن يجعله مثار شكوك، في الوقت الذي كان فيه الواجب توفير كل سبل الإعجاز التي تهيأ له أمر الدعوة وتؤكد للمكذبين والمتشكيين صدق أمرها؟

فساد المفسّرين
يذكر القرآن هذه الآية (حتى اذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) وبالرجوع إلى أمهات كتب التفاسير المعتد بها مثل تفسير الجلالين نجده يُفسر لنا الآية على هذا النحو: "حَتَّى إذَا جَاءَنَا" الْعَاشِي بِقَرِينِهِ يَوْم الْقِيَامَة "قَالَ" لَهُ "يَا لَيْتَ" لِلتَّنْبِيهِ "بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ" أَيْ مِثْل بُعْد مَا بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب "فَبِئْسَ الْقَرِين"

ويوافقه ابن كثير في ذلك فيقول في تفسيره لذات الآية: أَيْ إِذَا وَافَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَوْم الْقِيَامَة يَتَبَرَّم مِنْ الشَّيْطَان الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَقَرَأَ بَعْضهمْ " حَتَّى إِذَا جَاءَانَا " يَعْنِي الْقَرِين وَالْمُقَارَن قَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ سَعِيد الْجُرَيْرِيّ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ الْكَافِر إِذَا بُعِثَ مِنْ قَبْره يَوْم الْقِيَامَة شَفَعَ بِيَدِهِ شَيْطَان فَلَمْ يُفَارِقهُ حَتَّى يُصَيِّرهُمَا اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى النَّار فَذَلِكَ حِين يَقُول " يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِين " وَالْمُرَاد بِالْمَشْرِقَيْنِ هَهُنَا هُوَ مَا بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ هَهُنَا تَغْلِيبًا كَمَا يُقَال : الْقَمَرَانِ وَالْعُمَرَانِ وَالْأَبَوَانِ قَالَهُ اِبْن جَرِير وَغَيْره .

وكذلك يتفق تفسير الطبري مع تفسير الجلالين وابن كثير في القول بأن المشرقين هما المشرق والمغرب، بينما يختلف تفسير القرطبي فيما ذهب إليه من أن المشرقين لا يُراد بهما المشرق والمغرب، بل يُقصد به مشرق الشتاء ومشرق الصيف، وفي ذلك يقول: "فَيَقُول الْكَافِر : " يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ " أَيْ مَشْرِق الشِّتَاء وَمَشْرِق الصَّيْف (...) وَقِرَاءَة التَّوْحِيد وَإِنْ كَانَ ظَاهِرهَا الْإِفْرَاد فَالْمَعْنَى لَهُمَا جَمِيعًا ; لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ بِمَا بَعْده ; كَمَا قَالَ : وَعَيْن لَهَا حَدْرَة بَدْرَة شُقَّتْ مَآقِيهمَا مِنْ أُخَرْ قَالَ مُقَاتِل 
: يَتَمَنَّى الْكَافِر أَنَّ بَيْنهمَا بُعْد الْمَشْرِق أَطْوَل يَوْم فِي السَّنَة إِلَى مَشْرِق أَقْصَر يَوْم فِي السَّنَة , وَلِذَلِكَ قَالَ : " بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ "

فإذا كان المشرقين في الآية السابقة تعني المشرق والمغرب حسب تفسير وترجيح غالب علماء التفسير، فما المقصود بـ(رب المشرقين والمغربين) الواردة في سورة الرحمن؟

يقول القرطبي مخالفاً لرأيه الأول في معنى "المشارق" بأن المقصود بالمشرقين والمغربين في هذه الآية هو "رب المشرقين" ليعيد إغلاق دائرة الحيرة مرّة أخرى. في حين يعود ابن كثير والجلالين والقرطبي ليُفسّروا المشرقين والمغربين على أنهما مشرقي الصيف والشتاء بعد أن كانوا قد قالوا أنّ المشرقين في الآية الأولى يُقصد بها "المشرق والمغرب"!! وكأن المشرقين إذا ذكرت وحدها تعني "المشرق والمغرب" وإذا ذكرت مع المغربين يكون المقصود بها شيء آخر وهو "مشرق الصيف ومشرق الشتاء!!"

وإذا صدقنا هذا التخبّط في التفسير بين تفسير آية "المشرقين" وحدها، وآية "المشرقين والمغربين" فترى ما هو تفسير (المشارق والمغارب) في الآية التي تقول (فلا اقسم برب المشارق والمغارب انا لقادرون ) في رأي أهل التفسير؟

يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا ابْن عُلَيَّة , قَالَ : أَخْبَرَنَا عُمَارَة بْن أَبِي حَفْصَة , عَنْ عِكْرِمَة , قَالَ : قَالَ ابْن عَبَّاس : إِنَّ الشَّمْس تَطْلُع كُلّ سَنَة فِي ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ كُوَّة , تَطْلُع كُلّ يَوْم فِي كُوَّة , لَا تَرْجِع إِلَى تِلْكَ الْكُوَّة إِلَى ذَلِكَ الْيَوْم مِنَ الْعَام الْمُقْبِل , وَلَا تَطْلُع إِلَّا وَهِيَ كَارِهَة , تَقُول : رَبّ لَا تُطْلِعنِي عَلَى عِبَادك , فَإِنِّي أَرَاهُمْ يَعْصُونَك , يَعْمَلُونَ بِمَعَاصِيك أَرَاهُمْ , قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْل أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : حَتَّى تُجَرّ وَتُجْلَدَ قُلْت : يَا مَوْلَاهُ وَتُجْلَدَ الشَّمْس ؟ فَقَالَ : عَضِضْت بِهَنِ أَبِيك , إِنَّمَا اضْطَرَّهُ الرَّوِيّ إِلَى الْجَلْد." وبهذا فإنه يقول بأنّ للشمس منازل تطلع وتغرب منها تختلف منازلها على مدار السنة، ولو تغاضينا عن النهج الأسطوري الذي رويت به هذه الرواية (وهو المشهور في أغلب القصص والنصوص الدينية) من امتناع الشمس عن الشروق على أناس يعبدون الله، وسحبها وجلدها إكراهاً لها على الشروق وما في ذلك من تناقض واضح وصريح مع مجمل النصوص القائلة بأن الأراضين والسموات السبع طائعة لله وتسير وفق تدبير إلهي مسبق بدليل الآية القائلة (ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين ) نجد أنّ هذا التفسير أقرب إلى التصديق على اعتبارات فلكية خاصة، ولكنها في الوقت ذاته تتناقض مع الآيتين الأوليين اللتان طالبنا بتفسيرهما آنفاً.

ويختلف ابن كثير مع الطبري في تفسيره لهذه الآية فيقول: "أَيْ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجَعَلَ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا وَسَخَّرَ الْكَوَاكِب تَبْدُو مِنْ مَشَارِقهَا وَتَغِيب فِي مَغَارِبهَا. وَتَقْدِير الْكَلَام لَيْسَ الْأَمْر كَمَا يَزْعُمُونَ أَنْ لَا مَعَاد وَلَا حِسَاب وَلَا بَعْث وَلَا نُشُور بَلْ كُلّ ذَلِكَ وَاقِع وَكَائِن لَا مَحَالَة" وهو بذلك لا يجد تفسيراً منطقياً لكون أنّ لشمس مشارق ومغارب متعددة وإذا عرفنا أن الفارق الزمني بين الطبري وبين ابن كثير يقارب الخمسمائة سنة تقريباً (تُحسب لصالح) الأخير نعرف أنه ليس من المعقول أن يجهل ابن كثير ما كان يعرفه الطبري من علوم الفلك التي عرفت في وقته إذ تذكر الكتب أن وفاة الطبري كانت في سنة 310 للهجرة، بينما تذكر أن وفاة ابن كثير كانت في السنة 464 للهجرة وعلى هذا فإنه من المنطقي أن تكون العلوم، بما فيها علم الفلك قد تطورّت كثيراً في عهد ابن كثير عما كانت عليه في عهد الطبري، ورغم ذلك نجد هذا الاختلاف.

ونخرج من هذا كله من نتيجة مفادها الآتي: إذا كان المفسرون المسلمون غير قادرين على الاتفاق على تفسير آية واحدة علماً بأنهم أئمة هذا العلم وإذا عرفنا أنّ الفقه الإسلامي يمنع عامة المسلمين من محاولات تفسير القرآن إلا للمتخصصين مخافة أن تسوق هذه المحاولات لبساً على هذه النصوص الدينية، فإننا سنجد أنفسنا أمام معضلة كبيرة تتراءى لنا على أنه احتكار لرجالات الدين على الدين وهيمنتهم عليه من ناحية، ومن ناحية أخرى تظهر لنا مدى الفساد الذي يُحدثه المؤرخون والمفسرون بعقول العامة. مع ملاحظة أنّ هذا الاختلاف اختلاف في أمور ظاهراتية وليست عقدية. وكذلك مع ملاحظة أنّ التفسير النصوص القرآنية يُعتبر عند الأغلب "علماً" له مناهجه وطرائقه التي من المفترض أن تكون أكثر دقة، فمن أين جاء هذا الاختلاف البيّن والصارخ؟وألا يخالف قولهم ذلك عن "المشرقين" و "المشارق" ما جاء في الحديث الصحيح: (ن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها... إلخ)؟

الرسول مصارع الجن:
جاء في صحيح البخاري أنّ محمداً قد تعرّض له الشيطان في صلاته وأنه أمسك بك وصارعه وكان على وشك أن يقيّده في إحدى سواري المسجد. وفي ذلك نذكر الحديث: "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن عفريتا تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي , فأمكنني الله منه , وأردت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد , ثم ذكرت قول أخي سليمان (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي (فأرسلته , فلولا ذلك لأصبح يلعب به ولدان المدينة" . وهنالك صيغة أخرى من صيغ هذا الحديث تذكر أنه لم يكن "عفريتاً" بل كان "شيطاناً" لأن الشيطان هو من يوسوس للإنسان في صلاته وليس العفريت كما حاول علماء الدين التفريق بينهما أي بين الجنّ "العفريت" وبين الشيطان. وهذا الأثر فيه الكثير من الخرافة التي يجب أن تخضع للتمحيص والتدقيق من جميع أشكالها وجوانبها:

الجانب الأول: هذا الحديث غير صحيح من جانب أن الأنبياء معصومون وبالتالي فإن تفلت الشيطان أو الجن على نبي هو أمر غير وارد الحدوث إلا إذا كان الكلام في معرض إظهار قوة النبي الخارق الذي يقاوم حتى الجن والعفاريت والمخلوقات غير المرئية. ومن ناحية أخرى فإن الشيطان أو الجن ليس عليهم سلطان على المؤمنين وذلك لأن المؤمنون وليهم الله الذي يحفظهم ويكلأهم برعايته طالما أنهم مواظبون على الأذكار التي تحول بينهم وبين الجان، فكيف بالنبي؟

الجانب الثاني: في قوله (ليقطع عليّ صلاتي) يعني أنه كان في حالة تعبّدية، ويذكر العديد من كتب الأثر والسيرة نقلاً عن بعض الصحابة أو التابعين دخلهم في حالة تسامي في لحظات الصلاة والخشوع فيه، ورد في الأثر أنّ عبّاد بن بشر وعمّار بن ياسر (وهما صحابيان) كانا في "رباط" مناوبة ليلية فنام عمّار وترك عباداً يصلي، وبينما هو يصلي خرج عليهما أحد المشركين فسدد سهماً على عبّاد بن بشر فأصاب ذراعه اليمنى ولم يقطع عباد صلاته بل واصل فيها، فسدد المشرك سهماً آخراً فأصاب ذراعه الأخرى "اليسرى" فلم يقطع صلاته، ثم سدد سهماً في ظهره حتى أريقت دماؤه، وهو ما يزال قائماً يُصلي .. حتى تذكر الرواية، أنّ عباداً يقول بعد ذلك عن تلك الحادثة "فوالله لولا خوفي أن يؤتي المسلمون من قبلي لما قطعت صلاتي" أيّ أنه بعد ذلك أيقظ عماراً. وهذا الحديث الخرافي المختلق لهو كذب بيّن من عدّة أوجه فما كان لعبّاد أن يفطن لوجود المشرك أو أن يخاف أن يؤتى المسلمون من قبله إلا بعد ثلاث إصابات من السهم؟ وكيف لرجل أن يصوّب سهمه فيصيب ذراعاً يمنى ثمّ يصوّب الأخرى فتصيب الذراع اليُسرى إلا أن يغيّر تمركزه من جهة إلى أخرى؟ هذا الحديث رغم كذبه الواضح إلا أنه مذكور في كتب الأثر لاسيما ما يأتي فيها من ذكر خشوع الصحابة في الصلاة، وفي مقابل اللذة المزعومة التي في العبادة والصلاة! فإذا كان عبّاد بن بشر لم يقطع صلاته لثلاث أسهم فكيف يقطع النبي محمد صلاته لتفلّت عفريت من الجني عليّه؟ وذلك في قوله (فأمكنني الله منه). وكذلك من ضمن الآثار التي ترد في ذكر خشوع السلف الصالح تلك الرواية المكذوبة التي تتناولها بعض الكتب عن عروة بن الزبير عندما أرادوا أن يبتروا ساقه المصابة، ورفضه لأن يخضع لعملية تخدير بقوله "أعوذ بالله أن أستعين بمعصية الله على ما أرجوه من عافية. دعوني أصلي ثم افعلوا ما بدا لكم" ثمّ كبر ودخل في الصلاة فبتروا ساقه بمنشار ثم وضعوا رجله في زيت مغلي حتى ينقطع الدم حتى أخشي عليه" وهذه الرواية العنترية واضحة الكذب والتلفيق بما فيها من عدم احترام لعقلية الناس إلا أنها أيضاً تأتي في ذات السياق عند ذكر الخشوع في الصلاة، فكيف لأتابع نبي أن يتفوقوا عليه في الخشوع في الصلاة؟

الجانب الثالث: فيه مبالغة غير منطقية من قدرة محمد أو أيّ بشر كان على ربط وتقييد جني على سارية! فمن المعلوم أن الجن في الثقافة الدينية هم مخلوقات غير مرئية، فإذا صدقنا بأنه بالإمكان الإمساك به وربطه، فكيف يكون لنبي أن يفعل ذلك من أجل أن يتسلى به أطفال المدينة وهو الذي يذيع عن نفسه بأنه رسول الرحمة المهداة للعالمين؟

الجانب الرابع: من هذا العفريت اللئيم الذي استطاع أن يستغفل العناية الإلهية ومن ثم يستغفل قرين النبي محمد (الذي ذكر في الأثر أنه قد أسلم)؟ كيف استطاع هذا العفريت أن يتجاوز كل هذه الحراسات المشددة حول شخصية النبي وأن يتفلت عليه في الصلاة؟ علماً بأن المسلم في حال الصلاة يكون طاهراً والجن والشياطين لا يقربون المتطهرين؟

الجانب الخامس: يقول الحديث على لسان النبي محمد (ثم ذكرت قول أخي سليمان ...) وهذه كذبة أخرى غير متسقة مع سياق ما ورد حول دعوة الملك سليمان. فلقد تساءل البعض عن كيفية تجرؤ سليمان على الله وطلبه منه مثل هذا الطلب من عرض الدنيا (هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) والحقيقة أنّ المفسرين (كعادتهم) اختلفوا في تفسير ذلك، فمنهم من قال: أنّ ذلك ممكن كما حدث مع يوسف بن يعقوب حين قال (اجعلني على خزائن الأرض) غير أنّ هذه الفئة من المفسرين نسوا أنّ المخاطب في هذا الخطاب هو ملك مصر وليس الله. وهنالك فئة أخرى تقول بأن المقصود بالملك هنا هي المعجزة. ولكن هذه الفئة لم تفسّر كيف يطالب نبي بأن تكون له معجزة مخصصة لا تنبغي لأحدٍ من بعده، وفي هذه الجزئية بالتحديد تأتي أقوال المفسرين الآخرين الذين يقولون أنه كان يقصد بقوله (بعدي) أيّ ملك آخر بعد فخصصت الدعوة بالملوك، وقال البعض الآخر، أنه كان يقصد الناس عموماً بمن فيهم الملوك، ويستثنى من ذلك طبعاً الأنبياء ، إلا أنّ ذلك يبان عدم صدقه في السياق التاريخي للأديان، فلم نجد نبياً أو رسولاً يدعي ملكاً كالذي امتلكه سليمان أو حتى والده داؤد، كذلك فإن هؤلاء الفئة من المفسرين أغفلوا بأن امتناع محمد عن تقييد العفريت كان من أجل دعوة سليمان مما يدل على أنّ الدعوة شملت الأنبياء أيضاً.

مما تقدّم يتأكد لنا أنّ هذا الحديث مختلق وكذب وهراء لا علّة يقوم عليها، وعندما نعلم ورود هذا الحديث في الصحيح، فإننا نتساءل: من الكاذب: محمد أو البخاري ورواة هذا الحديث الذين أخذ عنهم؟ فإذا كنا لن نصدّق بأن يكذب نبي الإنسانية والرحمة الذي حرّم الكذب وجعله خصلة من خصال المنافقين، فإن التخمين الأقرب إلى التصديق والصحة هو أنّ هذا الحديث مكذوب عليه، فكيف يرد حديث خرافي كهذا الحديث الكاذب في كتاب مثل (صحيح البخاري)؟ وإذا عرفنا ما قيل عن البخاري من دقة منهجه في جمع الحديث، وتحريه للمصادر والأسانيد؛ أفلا يجعلنا هذا نتشكك في بقية الأحاديث الواردة في هذا الكتاب؟

خرافة الإسراء والمعراج:
يذكر الترمذي في سننه حديث المعراج فيقول: "حدثنا أبو بكر قال حدثنا الحسن بن موسى بن الأشيب قال حدثنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل , يضع حافره عند منتهى طرفه , فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء , ثم دخلت فصليت فيه ركعتين , ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ; فاخترت اللبن , فقال جبريل : أصبت الفطرة قال : ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , فقيل : وقد أرسل إليه ؟ فقال : قد أرسل إليه , ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب ودعا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل : ومن أنت ؟ قال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد , فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه , ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا ودعوا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل : ومن أنت ؟ فقال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد , قالوا : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه , ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب ودعا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل : ومن أنت ؟ فقال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم فقيل : وقد أرسل إليه ؟ فقال : قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير , ثم قال : يقول الله { ورفعناه مكانا عليا } ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ فقال : محمد , فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه , ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل , فقيل : ومن معك؟ قال محمد , فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه , ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب ودعا لي بخير , ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل , فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد , فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه , ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم وإذا هو مسند إلى البيت المعمور , وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه , ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها أمثال القلال.

فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت , فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها , قال : فأوحى الله إلي ما أوحى, وفرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة , فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قال : قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة , فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك , فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم , قال : فرجعت إلى ربي فقلت له : رب خفف عن أمتي , فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقال : ما فعلت ؟ فقلت : حط عني خمسا , قال : إن أمتك لا تطيق ذلك , فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك , فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى عليه السلام فيحط عني خمسا خمسا حتى قال : يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة , بكل صلاة عشر , فتلك خمسون صلاة , ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا , ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب له شيئا , [ ص: 445 ] فإن عملها كتبت سيئة واحدة , فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت}

بينما يذكر الإمام أحمد في مسنده حديث المعراج فصيغة مغايرة تماماً إذ يقول: حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف عن زرارة بن أوفى قال : قال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لما كان ليلة أسري بي أصبحت بمكة , قال : فظعت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي , فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معتزلا حزينا فمر به أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ قال نعم , قال : وما هو ؟ قال : أسري بي الليلة قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس : قال : ثم أصبحت بين أظهرنا ؟ قال : نعم , فلم يرد أنه يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه , قال : أتحدث قومك ما حدثتني إن دعوتهم إليك ؟ قال : نعم , قال , هيا معشر بني كعب بن لؤي هلم , قال : فتنفضت المجالس فجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال : حدث قومك ما حدثتني , قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أسري بي الليلة , قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس , قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم , قال : فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب زعم , وقالوا : أتستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ قال : وفي القوم من سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذهبت أنعت لهم , فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت , فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو دار عقال , فنعته وأنا أنظر إليه , فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب}

وقد ذكر حديث المعراج في أكثر من مرجع كسنن النسائي وسنن ابن ماجه وغيرهما باختلاف الرواية. وربما يكون اختلاف الروايات الواردة في حديث المعراج عائداً إلى اختلاف المناسبات التي قيلت فيها، فلقد كانت حادثة الإسراء والمعراج حادثة من الحوادث المهمة في التاريخ الإسلامي، إذ يكتسب محمد بها قدسيته وحجته السماوية من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه كان بحاجة إلى دعم معنوي ومادي قويين لاسيما في تلك الظروف النفسية الصعبة التي كان يمر بها قبل الهجرة المحمدية إلى المدينة ذلك العام والذي سًمّي بعام الحزن. ولكننا نقف هنا على هاتين الروايتين الواردتين في شأن حديث الإسراء والمعراج لنعرف مدى صدق الرواية من كذبها بنوع من التحليل. فترى ما الغرض الإلهي من هذه الرحلة السماوية، إذا كانت الرحلة قد حدثت فعلاً؟ وإلا فما مناسبة هذه القصة المختلقة ومبرراتها إذا كانت مختلقة بالفعل؟

في حديث المعراج الوارد في سنن الترمذي نجد أنّ الحديث منقول على لسان محمد مباشرة، فهو المتحدث والسارد لهذه القصة، وإذا كنا سوف نصدّق قصة المعراج فإننا لن نصدق روايته لها بتلك الطريقة التي تخلو من أيّ بلاغة لغوية كان مشهوراً بها. فكيف لعربي فصيح أن يول مثلاً (دابة أبيض) ولا يقول (دابة بيضاء). أيضاً فإن الوصف الخرافي للدابة كان مناسباً تماماً للمناسبة الخرافية ذاتها، فقد ذكرت بعض الروايات أنّ محمداً وجبريل وهما راكبان على البراق مرّا على دواب لقريش فجفلت، وتساءل القوم عن ذلك الشيء الذي مرّ سريعاً أمامهم، فقال بعضهم "إنها مجرّد ريح" في كناية عن سرعة الدابة "البراق" فكيف بعد ذلك يأتي ليقول (فركبته فسار بي) فكيف يكون السير وصفاً للريح أو لما يشبه الريح؟

ومما يثير التساؤل كذلك، الأمر الذي دفع محمداً لأن يربط الدابة في قوله (فربطت الدابة بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء) فهل خاف أن تجفل الدابة وهي دابة سماوية مأمورة؟ وكما قال البعض هل يخاف أن تهرب وقد وهبها الله له؟ وكانت تلك من الأمور غير المبررة في الرواية، والواقع أنّ المخيّلة العربية لا تستطيع النزوح بعيداً عن الإرث العربي ذاته، فربط الدواب هو إرث وتقليد عربي لا يمكن أن ينسجم مع قصة خيالية من هذا النوع. ومما يدعو للتساؤل والحيرة أنّ تنطبق السنن الأرضية على مخلوق سماوي خرافي كالبراق، فربط الكائن يوحي بأنّ لديه لجاماً من نوعٍ ما، وهذا مما لا يُمكن أن يُفهم في سياق هذه القصة غير الواقعية. فإذا كان الله قد خلق البراق خصيصاً لهذا الغرض، أي غرض إيصال محمد إلى بيت المقدس، فهذا يستدعي أن نؤمن أنه قد خلق بلجام، وهذا ما لا يُمكن أن يُصدّقه عاقل.

ثم إنّ بعض الروايات تذكر أنّ جبريلاً أردف محمداً وراءه على ظهر البراق. وهذه فيها مبالغة من خيال عربي محدود. فمعظم الروايات الثقات التي ذكرت البراق وصفته بأنه (فوق الحمار ودون البغل) ولا شك أنّ هذا حيواناً بهذا الحج قد يكون مناسباً لأن يركبه آدمي، ولكن ليس لكائن مهول "شديد القوى" كجبريل الذي وصفه محمد في إحدى أحاديثه الواردة في صحيح مسلم إذ يقول: "رأيته منهبطاً من السماء، سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض". ووصف لبعض الملك بقوله في الحديث الذي رواه أبو داود : " أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش، ما بين شحمة أذنه وعاتقه، مسيرة سبعمائة عام " ومن المعلوم أن جبريل هو كبير الملائكة قدراً ومنزلة. رغم أن القول بأنه كان لحظة الإرداف متشكلاً بخلقة آدمية أو ما دونها بقليل أو ما فوقها بقليل هو قول وارد، ولكن ألم يكن من الحكمة والمنطق أن يقوم جبريل بحمل محمد مباشرة إلى بيت المقدس دون الحاجة إلى كائن مثل البراق؟ وإلا فما الحكمة من خلق البراق مع وجود ملك كجبريل قادر على نقل محمد من مكة إلى بيت المقدس في لحظات؟ وإذا علمنا أن الملائكة كائنات لها قدرات خارقة أكثر مما يمتلك بقية المخلوقات من الإنس والجن، القادرين على حمل عرش ملكة سبأ قبل ارتاد الطرف، أفيعجز بعد ذلك جبريل عن نقل محمد من مكة إلى بيت المقدس؟

ثم نجد في قوله على لسان "جبريل" (أصبت الفطرة) أنه لا يبتعد كثيراً عن المخيّلة العربية إذ أن شراب بل وغذاء العرب الأول هو اللبن فهو فطرتهم أي فطرة العرب وليست فطرة الإنسان عموماً، ولم تُعرف حكمة هذا الاختبار لاسيما وأنها قد جاءت مباشرة قبل المعراج، فما الحكمة من تناول اللبن قبل المعراج مباشرة؟ هل في اللبن عنصر يساعد على تقليل الإحساس بالضغط الجوي مثلاً أو شيء من هذا القبيل؟ أم كان ذلك مجرّد تكريس واعٍ لحرمانية الخمر وكراهيته، لاسيما وأنّ ذلك الوقت كان الوقت الذي تم فيه تحريم الخمر في الفترة المكية من الدعوة.

ثم ومع صعود جبريل ومحمد إلى السماء في رحلتهم إلى سدرة المنتهى نجد أنّ هنالك العديد من التناقضات التي ترد على لسان الراوي وهو محمد نفسه فيما يرويه من أحداث تلك الرحلة العجيبة.


فهو يقول: " ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , فقيل : وقد أرسل إليه ؟ فقال : قد أرسل إليه , ففتح لنا) وإذا كنا سوف نصوّر هذا المشهد الدرامي بطريقة مبسّطة فسوف نعلم أنّ هنالك باباً يقف من ورائه ملائكة السماء الأولى والثانية والثالثة . إلخ.


وهم بالضرورة لا يرون من هو دون هذا الباب، ولذا فهم يسألون "من أنت؟" لأنهم لا يرونه. وفي هذا تشكيك، لأنه من غير المنطقي ألا يتعرف ملائكة السماء إلى صوت جبريل "روح القدس" وإذا تجاوزنا عن هذه النقطة، وقلنا أنّهم مأمورون بالتأكد من هوية كل من يمر بهذه الأبواب وأنهم ما كانوا يسألون إلا زيادة في التأكيد؛ فكيف عرفوا أن من وراء الباب بمعيته شخص آخر ليسألوا (ومن معك ؟) وإذا تجاوزنا عن هذه المسألة على اعتبار أنّهم ربما قد سمعوا صوتاً آخر غير صوت جبريل فتشككوا في الأمر فكيف لم يتعرفوا على محمد عند قولهم (وقد أرسل إليه ؟) وهما في هذا إنما يسألون ما إذا كان هذا المحمد الذي يتكلم عنه جبريل رسولاً أم لا .. فهذا الأمر لا ينطبق مع الآية التي تقول (إن الله وملائكته يصلون على النبي ..) فكيف لا يعرف الملائكة محمداً؛ ذلك الرسول الذي يصلون عليه وتكون صلاتهم جزءاً من عبادتهم؟! ثم إنّ الأمر ظل يتكرر في كل سماء مما يعني أنّ ملائكة السماء كلهم لا يعرفون محمداً، وهو الأمر الأغرب على الإطلاق في مجمل القصة. ثم إن السؤال يبدأ بالتغيّر اعتباراً من السماء الخامسة ليكون (وقد بعث إليه) بدلاً من (وقد أرسل إليه) دلالة على أنّ تلك السماوات لا يصلها إلا الأنبياء وليس الرسل فقط.

نلاحظ في الرواية التي يرويها محمد عن رحلته السماوية المعروفة بالمعراج أنّه كان يجد على كل باب يدخل منه رسولاً أو نبياً من الأنبياء وهم حسب الترتيب كالآتي:

السماء الأولى: آدم
السماء الثانية: يحيى وعيسى
السماء الثالثة: يوسف
السماء الرابعة: إدريس
السماء الخامسة: هارون
السماء السادسة: موسى
السماء السابعة: إبراهيم

وهنا نلاحظ أمراً غاية في الغرابة، فمنذ الباب الأول وحتى الخامس، كانت ملائكة السماء يسألون جبريل (أو أرسل إليه؟) في دلالة على أنّ السماوات الدنيا (من 1 إلى 5) لا يدخلها إلى الرسل، بينما اختلف السؤال منذ السماء الخامسة ليصبح (أو بعث إليه؟) في دلالة على أن السماوات العليا (من 5 إلى 7) لا يدخلها إلى أنبياء فقط. ورغم ذلك فإننا نجد في السماوات الدنيا عيسى (في السماء الثانية) وهو من الأنبياء بينما نجد هارون (في السماء الخامسة) وهو من الرسل، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن سرّ هذا الترتيب. كما أنّ محمداً أشار في حديثه عن (إرديس) بالآية التي تذكره (ورفعناه مكاناً عليا) فهل السماء الرابعة مكان عليّ أكثر من الخامسة والسادسة والسابعة؟ بل وأين بقية الأنبياء؟ وأغلب الظن أنّه لو كان هنالك أكثر من سبع سموات لذكر أكثر من ذلك. ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: ماذا يفعل هؤلاء الأنبياء والرسل بين السماوات بينما كان من المفترض أن يكونوا في الجنة ونعيمها؟ هل كانوا في استقبال محمد مثلاً؟ أم أنّ لوضع كل منهم في درجته رمز يجب علينا أن نفهمه؟

إن قصة الإسراء والمعراج تأتي في سياق الدعاية وتجديد القداسة التي كادت أن تبارح شخصية محمد بعدما بدأ البعض يتشككون في أمر رسالته ونبوته عام الحزن، لأن بعضهم قال: لو كان نبياً لما سمح الله بأن يحدث له كل ذلك في عام واحد. ولقد برع أيمّا براعة في تقديم قصته التي لم يصدقها غير القليلون من أمثال أبو بكر، ولم يصدقها القرشيّون، ورغم أنّ حادثة الإسراء كانت (إذا حدثت) معجزة بكل المقاييس إلا أنها لم تلق حظها من الانتشار بين أوساط مسلمي مكة ولا حتى مسلمي المدينة بعد ذلك. بل تناول بعض العلماء من المتأخرين رواية الإسراء والمعراج بجانب من التكذيب على شخصية محمد فقالوا بأنّه لم يصلِ في بيت المقدس وأنّه ما قيل حول ذلك إنما هو محظ كذب وافتراء عليه. ومن ذلك ما دار بين حذيفة بن اليمان (الذي كان يلّقب بحافظ سر النبي) وزر بن حبيش حول مسألة صلاة النبي في بيت المقدس، فكان رأي حذيفة بن اليمان أنّه لم يصلِ في بيت المقدس بينما كان زر بن حبيش يؤكد أن محمداً قد صلى في بيت المقدس، كما أنّ حذيفة بن اليمان كان يستهزأ بمسألة ربط محمد للجام البراق كما ورد في سنن الترمذي المتقدم. ولذا نجد (حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن حذيفة بن اليمان { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق هو دابة أبيض طويل يضع حافره عند منتهى طرفه , قال : فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى أتيا بيت المقدس ؟ وفتحت لهما أبواب السماء رأيا الجنة والنار قال : وقال حذيفة : ولم يصل في بيت المقدس , قال زر : فقلت : بلى قد صلى , قال حذيفة : ما اسمك يا أصلع فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك ؟ قال : قلت [ ص: 446 ] زر بن حبيش , قال : فقال : وما يدريك وهل تجده صلى ؟ قال : قلت : يقول الله : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } قال : وهل تجده صلى , أنه لو صلى فيه صلينا فيه كما نصلي في المسجد الحرام , وقيل لحذيفة : وربط الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ؟ فقال حذيفة : أوكان يخاف أن تذهب وقد آتاه الله بها}؟

أما في حديث فرض الصلوات الخمس على أمة محمد والحديث الذي دار بين محمد وبين موسى ففيه كلام كثير، ولنعرف لم سأل موسى عما افترضه الله على أمة محمد ولم يسأل إبراهيم مثلاً رغم أنه كان أقرب إليه منه. وهذا كلام آخر يطول، وبه ما به.